بالرّجم والتعذيب ؟ ! ليس هذا طريق الإنصاف وسلوك الشاعر العاقل ﴿بَلْ أَنْتُمْ﴾ أيها الناس ﴿قَوْمٌ مُسْرِفُونَ﴾ ومتجاوزون عن حدّ العقل والانصاف ، متوغلون في الجهل والعدوان والظلم والظّغيان ، فلمّا سمع حبيب النجّار الذي آمن بالرسل قبل ورودهم في المدينة معارضة القوم للرسل ، وتصميمهم على قتلهم ، جاء لنصرتهم كما حكاه سبحانه بقوله : ﴿وَجاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ﴾ وأبعد مكان منها ، وهو ما يقرب من بابها ، وكان دورها اثني عشر ميلا على ما قيل (١)﴿رَجُلٌ﴾ عظيم الشأن عند الله لإيمانه وكماله في الصفات الوجودية ، وهو ﴿يَسْعى﴾ ويسرع في مشيه ، لئلا يفوت عنه نصرة الرسل بقتلهم ورجمهم ، و﴿قالَ﴾ إشفاقا لقومه : ﴿يا قَوْمِ﴾ إن أردتم خير الدنيا والآخرة ﴿اتَّبِعُوا﴾ وأطيعوا هؤلاء ﴿الْمُرْسَلِينَ﴾ الذين يدعونكم إلى توحيد الله وخلوص العبادة له.
قيل : إنّه بعد ذلك سأل الرسل : أتريدون على رسالتكم أجرا ؟ قالوا : لا. فقال : يا قوم (٢)﴿اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ﴾ ولا يطلب منكم ﴿أَجْراً﴾ ومالا على إرشادكم إلى الحقّ ، وتعليمكم المعارف والأحكام الإلهية ﴿وَهُمْ مُهْتَدُونَ﴾ إلى خير دينكم ودنياكم ، عالمون بما فيه صلاح معاشكم ومعادكم ، فبيّن وجود المقتضي لاتّباعهم ، وهو كونهم مهتدين وعالمين بالمصالح والمفاسد ، وعدم المانع وهو الضرر المالي فيه.
﴿وَما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَ أَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ
الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَلا يُنْقِذُونِ * إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ
مُبِينٍ (٢٢) و (٢٤)﴾
ثمّ بالغ في ترغيبهم إلى اتّباعهم ببيان أنّهم لا يدعون إلّا إلى ما يحكم به كلّ عقل سليم ، وإن ما يرغّبهم فيه هو الذي اختاره لنفسه بقوله : ﴿وَما لِيَ﴾ وأي داع يدعوني إلى أن أعبد الأخشاب والأحجار التي لا تنفعني ولا تضرّني و﴿لا أَعْبُدُ﴾ الإله القادر ﴿الَّذِي فَطَرَنِي﴾ وأخرجني بقدرته من كتم العدم إلى عالم الوجود ، وأنعم عليّ بنعمة الحياة في البدو ؟ ﴿وَ﴾ أنتم ﴿إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ بعد الموت ، وتعاقبون على الإشراك به وتكذيب رسله ، فجمع بين غاية الترغيب والترهيب.
ثمّ بيّن كون عبادة غير الله سفها لا يرتكبه من شمّ رائحة العقل بإنكاره من نفسه بقوله : ﴿أَأَتَّخِذُ﴾ وأختار لنفسي غير الإله الذي فطرني و﴿مِنْ دُونِهِ آلِهَةً﴾ ومعبودين كالأصنام والكواكب وغيرهما مع أنّه ﴿إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ﴾ والإله الواسع الرحمة ﴿بِضُرٍّ﴾ ومكروه لسوء عملي ﴿لا تُغْنِ عَنِّي﴾ ولا
__________________
(١) تفسير روح البيان ٧ : ٣٨٣.
(٢) تفسير القرطبي ١٥ : ١٨.