ثمّ أنّه تعالى بعد بيان تفرّده بالقدرة الكاملة والحكمة البالغة الموجبتين لحمده وشكره وعبادته ، دعا عموم الناس إلى تذكّر نعمه وإقبالهم إلى شكره بقوله : ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ من الأبيض والأسود والأحمر ﴿اذْكُرُوا﴾ واعرفوا ﴿نِعْمَتَ اللهِ﴾ وتفضّله ﴿عَلَيْكُمْ﴾ بالخلق والرزّق والصحة والأمنية وغيرها من النّعم ، وأدّوا حقّها بالقيام بالشّكر والعبادة ، وانصفوا من أنفسكم ﴿هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللهِ﴾ ومفضّل بنعمة الايجاد لشيء من الأنبياء سوى الله وهو ﴿يَرْزُقُكُمْ﴾ ما يوجب بقاءكم ﴿مِنَ السَّماءِ﴾ بالمطر والرياح النافعة ﴿وَ﴾ من ﴿الْأَرْضِ﴾ بالنباتات والزروع والأشجار ، لا والله لا خالق ولا رازق غيره ، فاذن خصّوه بالعبادة لأنّه ﴿لا إِلهَ﴾ ولا معبود بالاستحقاق ﴿إِلَّا هُوَ﴾ تعالى وحده ﴿فَأَنَّى﴾ ومن أي وجه ، وأي جهة ﴿تُؤْفَكُونَ﴾ وتصرفون من توحيده إلى الشرك ، ومن عبادته إلى عبادة غيره من الأصنام والملائكة والكواكب وغيرها ﴿وَإِنْ يُكَذِّبُوكَ﴾ في إدّعاء التوحيد والرسالة ، وأصرّوا على إنكارهما ، فليس تكذيب الرسول أمرا بديعا منهم ﴿فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ﴾ كثيرة أولو شأن خطير ومعجزات باهرة ، أرسلناهم إلى أمم كثيرة ﴿مِنْ قَبْلِكَ﴾ وقبل إرسالك إلى قومك ، فصبروا على تكذيبهم وإيذاء قومهم ، فظفروا بمقاصدهم من الغلبة والنّصرة وإعلاء الكلمة ﴿وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ وترد عواقبها ، فيجازي الصابر على صبره والمكذّب على تكذيبه.
﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ
الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ
أَصْحابِ السَّعِيرِ (٥) و (٦)﴾
ثمّ أنّه تعالى بعد إثبات التوحيد والدعوة إلى الاقرار به ، دعا الناس إلى الإيمان بالحشر بقوله : ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ﴾ اعلموا ﴿إِنَّ وَعْدَ اللهِ﴾ بالحشر والمعاد ودار الجزاء ﴿حَقٌ﴾ وصدق لا خلف فيه ﴿فَلا تَغُرَّنَّكُمُ﴾ ولا تذهلنّكم ﴿الْحَياةُ الدُّنْيا﴾ وشهواتها عن السعي لها بطاعة الله وترك معاصيه ﴿وَلا يَغُرَّنَّكُمْ﴾ ولا يوقعنّكم في خطر العذاب والحرمان من الثواب ﴿بِاللهِ الْغَرُورُ﴾ والشيطان الموسوس في الصدور ، بأن يمنّيكم عفو الله عن المعاصي لكرمه وسعة رحمته ، إنّه أكرم الأكرمين في موضع العفو والرحمة ، وأشدّ المعاقبين في موضع النّكال والنّقمة.
ثمّ فسّر سبحانه الغرور وعرّفه بالعداوة الموجبة للاحتراز منه بقوله : ﴿إِنَّ الشَّيْطانَ﴾ الذي أخرج أبويكم من الجنة لعداوته لهما ﴿لَكُمْ﴾ أيضا ﴿عَدُوٌّ﴾ مبين ، فاذا علمتم عداوته ﴿فَاتَّخِذُوهُ﴾ بمخالفتكم إياه في العقائد والأعمال ﴿عَدُوًّا﴾ وكونوا منه على حذر في جميع الأحوال والأوقات ،