﴿وَجَعَلْنَا الْأَغْلالَ﴾ من النار ﴿فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا﴾ بالحقّ من التوحيد والرسالة والمعاد في الدنيا من المتبوعين والتابعين لكفرهم ﴿هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا﴾ جزاء ﴿ما كانُوا﴾ في الدنيا ﴿يَعْمَلُونَ﴾ من الكفر والمعاصي ، لا والله لا يجزون إلّا بعملهم.
﴿وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ *
وَقالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً وَما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ * قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ
لِمَنْ يَشاءُ وَيَقْدِرُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٣٤) و (٣٦)﴾
ثمّ لمّا يأّسوا النبيّ صلىاللهعليهوآله من إيمانهم بقولهم : ( لن نؤمن ) أبدا ( بهذا القرآن ) سلّى سبحانه نبيّه صلىاللهعليهوآله بذكر عدم إيمان التابعين للهوى والمحبّين للدنيا بالرسل في الأعصار السابقة أيضا بقوله : ﴿وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ﴾ وبلدة ﴿مِنْ﴾ نبي ﴿نَذِيرٍ﴾ للناس ﴿إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها﴾ ومتنعّموها ورؤساؤها تكبّرا وعنادا للنّذر : ﴿إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ﴾ بزعمكم من التوحيد والمعاد والأحكام ﴿كافِرُونَ﴾ ومنكرون ، هذه سيرة أغنياء جميع الامم المتبوعين للفقراء والسّفلة ، فلا يهمّك إنكار أكابر قومك رسالتك ، بل لم يقنعوا بالانكار ، واستدلّوا على بطلان دعوى رسالتهم ﴿وَقالُوا نَحْنُ﴾ أحبّ إلى الله منكم لأنّا ﴿أَكْثَرُ أَمْوالاً وَأَوْلاداً﴾ منكم في الدنيا ، وهذه علامة حبّه لنا ﴿وَما نَحْنُ﴾ في الآخرة على تقدير وقوعها ﴿بِمُعَذَّبِينَ﴾ لأنّ من أكرمه الله في الدنيا لا يهينه في الآخرة ، أو لأنّه لا عذاب في الآخرة لأحد.
ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلىاللهعليهوآله بردّهم بقوله : ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمد ﴿إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ﴾ ويوسّع ﴿الرِّزْقَ﴾ في الدنيا ﴿لِمَنْ يَشاءُ﴾ بسطه وتوسعته له ، مؤمنا كان أو كافرا ﴿وَيَقْدِرُ﴾ ويضيق على من يشاء تقديره وتضييقه عليه من مؤمن أو كافر حسب اقتضاء حكمته البالغة ، فليس بسطه دليلا على قرب المبسوط له منه ، وتضييقه دليلا على بعد من قدّر عليه عنه ، فانّ القرب والبعد والثواب والعقاب منوطان بالايمان والكفر والطاعة والعصيان ، كما في الحديث : « الدنيا عرض حاضر ينال منها البرّ والفاجر ، والآخرة وعد صادق يحكم فيها ملك قاهر » (١) . ﴿وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ﴾ الذين هم أهل الغفلة والخذلان ﴿لا يَعْلَمُونَ﴾ ذلك ، فيزعمون أنّ بسط الرزق للكرامة عند الله ، والضيق للهوان عليه ، مع أنّ كثيرا ما يكون الأول للاستدراج ، والثاني لرفع الدرجة (٢) .
﴿وَما أَمْوالُكُمْ وَلا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صالِحاً
__________________
(١) تفسير روح البيان ٧ : ٢٩٩.
(٢) تفسير أبي السعود ٧ : ١٣٥.