بعيدة عنه حتى تخفى عليه ﴿وَقَدَّرْنا﴾ في تلك القرى وعيّنا ﴿فِيها﴾ للمسافر ﴿السَّيْرَ﴾ والسلوك في الأرض مقدارا من المسافة يليق بحال عابري السبيل.
قيل : كان الغادي يقيل في الاخرى ، والرائح منها يبيت في اخرى إلى أن يبلغ الشام ، لا يحتاج إلى حمل زاد وماء ، نعمة عليهم في سفرهم (١) .
وقلنا له بلسان الحال أو المقال : يا أولاد سبأ ﴿سِيرُوا﴾ في تلك القرى ، وسافروا ﴿فِيها﴾ لمصالحكم ، وإن تطاولت مدّة سفركم ﴿لَيالِيَ وَأَيَّاماً﴾ كثيرة حال كونكم ﴿آمِنِينَ﴾ من الأعداء واللصوص والسباع بسبب كثرة الخلق ، ومن الجوع والعطش بسبب عمارة المواضع ، أو المراد سيروا فيها متى شئتم من الليالي والأيام لا يختلف الأمن فيها باختلاف الأوقات ، فبطر أولاد سبأ النعمة ، وسئموا طيب العيش ﴿فَقالُوا﴾ طلبا للتعب : ﴿رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ﴾ منازل ﴿أَسْفارِنا﴾ بتخريب القرى وجعلها مفاوز ، ليركبوا فيها ، ويحملوا الزاد ، ويتطاولوا على الفقراء ﴿وَظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ بتعريضها للسّخط والعذاب بالشّرك.
﴿فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ﴾ وقصّتهم أخبارا دائرة على ألسن الناس ، وعظة وعبرة لمن بعدهم إلى يوم القيامة ﴿وَمَزَّقْناهُمْ﴾ وفرّقناهم في الأرض ﴿كُلَّ مُمَزَّقٍ﴾ وغاية التفريق بحيث يضرب به المثل ، ويقال : تفرّقوا أيدي سبأ ، فانّهم كانوا قبائل ولدهم سبأ ، ولم يبق أحد منهم في مأرب ، بل سكن غسّان في الشام ، وقضاعة في مكة ، وأسد في البحرين ، وأنمار في يثرب ، وجذام بتهامة ، والأزد في عمان ﴿إِنَّ فِي ذلِكَ﴾ التفريق والله ﴿لَآياتٍ﴾ عظيمة ودلالات واضحة وعبرا كثيرة وحججا قاطعة على وحدانية الله وقدرته ، وغضبه على الكافرين ، وإنّما تكون فائدتها ﴿لِكُلِّ صَبَّارٍ﴾ ومبالغ في حفظ النفس عن المعاصي و﴿شَكُورٍ﴾ ومجدّ في أداء حقّ نعم الله ، وهو المؤمن الكامل في الإيمان المجتهد في عبادة الرحمن.
﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * وَما كانَ لَهُ
عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍّ وَرَبُّكَ
عَلى كُلِّ شَيْءٍ حَفِيظٌ (٢٠) و (٢١)﴾
ثمّ أنّه تعالى بعد بيان كفران أولاد سبأ وطغيانهم ، وتعذيبهم بسلب النّعم ، بيّن أنّها بتسويل الشيطان بقوله : ﴿وَلَقَدْ صَدَّقَ﴾ ﴿عَلَيْهِمْ﴾ وحقّق وأظهر ﴿إِبْلِيسُ﴾ مطابقة ما ﴿ظَنَّهُ﴾ وزعمه في حقّ
__________________
(١) تفسير روح البيان ٧ : ٢٨٥.