الأرض المخمّر بيد القدرة ، وبعد خلق آدم عليهالسلام ﴿ثُمَّ جَعَلَ﴾ الله ﴿نَسْلَهُ﴾ وذرّيته بطنا بعد بطن إلى يوم القيامة متكونا ﴿مِنْ سُلالَةٍ﴾ وخلاصة منتزعة من صلب الرجل ، أعني ﴿مِنْ ماءٍ مَهِينٍ﴾ مستقذر غير معتن به ، يقال له المنيّ ﴿ثُمَّ سَوَّاهُ﴾ وعدّل أعضاءه ، وصوّره في الرّحم ﴿وَ﴾ بعد تكميل خلق جسده ﴿نَفَخَ﴾ وأولج ﴿فِيهِ﴾ روحا طيبا شريفا ، يصحّ إضافته إلى نفسه لكمال شرفه ، ويقول : أدخل فيه ﴿مِنْ رُوحِهِ﴾ مع أنّه تعالى لا روح له ، بل هو خالق الرّوح فجعله حيا سويا ﴿وَجَعَلَ لَكُمُ﴾ يا بني آدم ﴿السَّمْعَ﴾ لتسمعوا الأصوات والكلمات التي أهمّها كلمات الله ومواعظه ومواعظ رسله ﴿وَالْأَبْصارَ﴾ لتبصروا المبصرات التي أهمّها آيات التوحيد ومعاجز الأنبياء ﴿وَالْأَفْئِدَةَ﴾ لتفهموا معاني الكلمات وحقائق الآيات ودقائقها ، ومع ذلك ﴿قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ﴾ نعم ربّكم.
قيل : إنّ القليل هنا بمعنى النفي (١) ، والمعنى لا تشكرون. وقيل : إنّ المراد قليلا منكم يشكرون(٢).
﴿وَقالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ
* قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (١٠) و (١١)﴾
ثمّ لمّا ذكر سبحانه آيات قدرته وحكمته من خلق السماوات والأرض ، واستيلائه على الموجودات ، وتدبيره في عوالم الملك والملكوت إلى قيام الساعة ، وإبدائه خلق الانسان الذي هو أتمّ الموجودات وأجمعها وأعجبها ، من الطين ، ثمّ خلق ذرّيته من النّقطة المسلولة من الصّلب ، وإعطائه نعمة السمع والبصر والفؤاد ، حكى قول منكري الحشر من كفّار قريش بقوله : ﴿وَقالُوا﴾ إنكارا للمعاد واستبعادا له : ﴿أَ إِذا ضَلَلْنا﴾ وغبنا ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ بأن صرنا ترابا وعظاما مخلوطا بأجزائها بحيث لا يتميّز ترابنا ، كما لا يتميز الماء المخلوط بالحليب منه ﴿أَ إِنَّا﴾ مع ذلك ﴿لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ﴾ وحياة ثانية واقعون أو كائنون ؟ ! لا يمكن ذلك ، وهم بقولهم هذا لم يكونوا منكرين لمجرّد الخلق ثانيا ﴿بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ﴾ وحسابه وجزائه للأعمال ﴿كافِرُونَ﴾ أيضا ، ولدار الآخرة والمصير إلى الله منكرون ﴿قُلْ﴾ يا محمد ردّا عليهم : أعلموا أيّها الكفرة أنّكم لا تموتون بالطبيعة ، ولا تنعدم أرواحكم بل ﴿يَتَوَفَّاكُمْ﴾ ويقبض أرواحكم ﴿مَلَكُ الْمَوْتِ﴾ وقابض الأرواح ﴿الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ﴾ وفوّض إليه من الله قبض أرواحكم ﴿ثُمَ﴾ بعد موتكم ﴿إِلى رَبِّكُمْ﴾ ومليككم يوم القيامة ﴿تُرْجَعُونَ﴾ وفي محكمة عدله تحضرون ، فيجازيكم على كفركم بالتوحيد والمعاد أسوأ الجزاء.
__________________
(١) تفسير روح البيان ٧ : ١١٢.
(٢) مجمع البيان ٨ : ٥١٣.