وأوصلهم ﴿إِلَى الْبَرِّ﴾ سالمين ﴿فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ﴾ ومتوسط في الإخلاص والكفر ، ولم يبق على التوحيد الخالص ، ولم يرجع إلى لجاجه في الشّرك ، لانزحاره منه في الجملة.
ثمّ لمّا خصّ سبحانه نفع آيات التوحيد بالمؤمن الصبّار الشكور ، خصّ جحودها بالذين عادتهم الغدر والكفران بقوله : ﴿وَما يَجْحَدُ﴾ ولا يلج في الكفر ﴿بِآياتِنا﴾ وآثار توحيدنا ﴿إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ﴾ وغدّار ومصرّ في نقص العهد و﴿كَفُورٍ﴾ لنعم الله.
﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَاخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَلا مَوْلُودٌ هُوَ
جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ
الْغَرُورُ (٣٣)﴾
ثمّ أنّه تعالى بعد إثباته التوحيد والمعاد ، هدّد منكريهما بقوله : ﴿يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ﴾ واحترزوا من غضبه عليكم بالاجتناب من الكفر والعصيان ﴿وَاخْشَوْا يَوْماً﴾ عظيما يجازي الله فيه و﴿لا يَجْزِي﴾ ولا يغني ﴿والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ﴾ بأن يقضي عنه شيئا من الحقوق ، أو يتحمّل شيئا من سيئاته ، أو يعطيه شيئا من طاعاته ، أو يدفع عنه شيئا من العذاب بالشفاعة وبذل المال ﴿وَلا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ﴾ ومغن أو مؤدّ ﴿عَنْ والِدِهِ شَيْئاً﴾ من الحقوق ، ودافع عنه شيئا من العذاب ، مع كون كلّ منهما في الدنيا أشفق الناس وأرأفهم بالآخر ، وأقرب إليه ، فكيف بالأباعد الذين لا شفقة لهم ولا مودّة ، وبالأصنام الذين لا شعور لهم ولا قدرة !
وعن كعب الأحبار : تقول امرأة من هذه الأمة لولدها يوم القيامة : يا ولدي ، أما كان لك بطني وعاء ، وحجري وطاء ، وثديي سقاء ، فاحمل عنّي واحدا من ذنوبي ، فقد أثقلنّي فيقول : هيهات يا امّاه ﴿كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ﴾ فاذا حملت عنك فمن يحمل عني ؟ (١)
فمن كان سبب عدم خوفه رجاء الانتفاع بصلاح الأقارب وشفاعة الأصنام ، فقد أخطأ أو عدم يقينه بمجييء ذلك اليوم ، فانّ الله وعد به و﴿إِنَّ وَعْدَ اللهِ حَقٌ﴾ لا خلف فيه ﴿فَلا تَغُرَّنَّكُمُ﴾ ولا يخدعنّكم ﴿الْحَياةُ الدُّنْيا﴾ ولا يشغلنّكم عن التفكّر في الآيات متاعها وشهواتها ﴿وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللهِ﴾ وبكرمه وقبول توبتكم بعد عصيانه الشيطان ﴿الْغَرُورُ﴾ الخدوع لبني آدم ، فانّه لا نجاة إلّا بالايمان وصالح الأعمال.
__________________
(١) تفسير روح البيان ٧ : ١٠١ و١٠٢.