﴿أَنَّ اللهَ بِما تَعْمَلُونَ﴾ في الليل والنهار ﴿خَبِيرٌ﴾ وعالم ، فانّ من شاهد هذا الصنع الرائق والتدبير الفائق ، يعلم أنّ صانعه ومدبّره لا يمكن في حقّه الغفلة عن جلائل أعمال عباده ودقائقها ﴿ذلِكَ﴾ المذكور من القدرة الكاملة والحكمة البالغة والصنائع العجيبة لا يكون بسبب إلّا ﴿بِأَنَّ اللهَ﴾ تعالى ﴿هُوَ الْحَقُ﴾ الثابت في الوهيّته ، الواجب لذاته ، المتفرّد في كمال صفاته ، وبسبب أنّه لا شريك له في ربوبيته ﴿وَأَنَّ ما يَدْعُونَ﴾ ويعبدون ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ وممّا سواه هو ﴿الْباطِلُ﴾ الفاني العاجز عن جلب نفع لنفسه فضلا عن أن ينفع من يعبد ﴿وَ﴾ بسبب ﴿أَنَّ اللهَ هُوَ الْعَلِيُ﴾ والمرتفع عن أن يشبهه غيره ﴿الْكَبِيرُ﴾ الذي يحتقر كلّ شيء في جنب كبريائه. وقيل : يعني العليّ في صفاته ، الكبير في ذاته (١) .
﴿أَ لَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ
لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ * وَإِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللهَ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ
كَفُورٍ (٣١) و (٣٢)﴾
ثمّ استدلّ سبحانه ببعض آثار تسخيره ما في الأرض بقوله : ﴿أَ لَمْ تَرَ﴾ يا محمد ، أو أيّها الرائي ﴿أَنَّ الْفُلْكَ﴾ والسفينة ﴿تَجْرِي﴾ وتسير سريعا ﴿فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللهِ﴾ وبرحمته وإحسانه حيث خلق آلاتها ، وعلم صنعها ، وأرسل الرياح لتسييرها ﴿لِيُرِيَكُمْ﴾ أيّها الناس بعضا ﴿مِنْ آياتِهِ﴾ ودلائل توحيده وقدرته ﴿إِنَّ فِي ذلِكَ﴾ الإجراء للفلك ﴿لَآياتٍ﴾ عظيمة ودلالات واضحة كثيرة على توحيد الله وصحّة المعاد ، نافعة ﴿لِكُلِ﴾ مؤمن ﴿صَبَّارٍ﴾ ومبالغ في إتعاب نفسه في طاعة الله والتفكّر في آياته ﴿شَكُورٍ﴾ ومجدّ في القيام بأداء حقوق نعمه.
ثمّ بيّن سبحانه أنّ المشركين فطرتهم على التوحيد ، ومقرون به ، عند يأسهم من الحياة ، وغفلتهم عن الشهوات ، فاذا أطمأنوا بالحياة ، ورفع عنهم الاضطرار ، عادوا إلى الشّرك ، وجحدوا آيات التوحيد بقوله : ﴿وَإِذا غَشِيَهُمْ﴾ وأحاط بهم في البحر ﴿مَوْجٌ﴾ وماء مرتفع ﴿كَالظُّلَلِ﴾ والجبال ، أو قطع السّحاب ، أو الأشياء التي تظلّ الانسان من الشمس في كثرتها وارتفاعها ، وأشرفوا على الغرق ﴿دَعَوُا اللهَ﴾ واستغاثوا به تعالى وحده لنجاتهم حال كونهم ﴿مُخْلِصِينَ لَهُ﴾ تعالى ﴿الدِّينَ﴾ والعبادة ، تاركين لدعاء غيره ، غير متوجهين إلى ما سواه ، بعلمهم باختصاصه بالقدرة على تحقيق مناهم وإنجاح مقاصدهم ﴿فَلَمَّا﴾ استجاب دعاءهم لخلوصهم في دعائه و﴿نَجَّاهُمْ﴾ من الغرق ،
__________________
(١) تفسير الرازي ٢٥ : ١٦١.