﴿أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ﴾ مذلّ لاهانتهم بالقرآن وبدين الله ﴿وَإِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا﴾ القرآنية ﴿وَلَّى﴾ وأعرض عنه حال كونه ﴿مُسْتَكْبِراً﴾ ومبالغا في الترفّع عن استماعها وعن إطاعة أحكامها والايمان بها ، ومن المعلوم أنّه لا يتصوّر التولّي عنه ممّن سمعها لما فيها من الفصاحة والبلاغة وحسن الاسلوب وطلاقة البيان بحيث عجز الإنس والجنّ من الاتيان بمثله ، وهذه الامور موجبات الاقبال عليها والخضوع لها ، فالمتولى عنها (١) يكون ﴿كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها﴾ ولم يكن عدم سماعه لها من باب الاتفاق مع كثرة تلاوتها عنده ، بل ﴿كَأَنْ﴾ حبّ الجاه والحسد والأخلاق الرذيلة أحدث ﴿فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً﴾ وثقلا مانعا من سماعها ، ولو تليت عليه ألف مرّة ، فكأنّه مشتاق إلى الكفر وما يترتّب عليه من العذاب ﴿فَبَشِّرْهُ﴾ يا محمد ﴿بِعَذابٍ أَلِيمٍ﴾ يبتلى به في الآخرة ، كما يبشّر بما يحبّه من شهوات الدنيا.
﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ * خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللهِ
حَقًّا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَأَلْقى فِي
الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَبَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً
فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ * هذا خَلْقُ اللهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ
دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (٨) و (١١)﴾
ثمّ أنّه تعالى بعد ما هدّد الكفّار بعاقبة كفرهم واستكبارهم عن سماع الآيات القرآنية ، بشّر المؤمنين بحسن مآل إيمانهم بقوله : ﴿إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بوحدانية الله ورسالة رسوله والدار الآخرة ﴿وَعَمِلُوا﴾ الأعمال ﴿الصَّالِحاتِ﴾ المرضيات عند ربّه ﴿لَهُمْ﴾ بالاستحقاق في الآخرة ﴿جَنَّاتُ﴾ فيها ﴿النَّعِيمِ﴾ الدائم - قيل : يعني نعيم جنّات فعكس (٢) . وقيل : جنّات النعيم إحدى الجنّات الثمان ، كما عن ابن عباس (٣) - حال كونهم ﴿خالِدِينَ﴾ ومقيمين ﴿فِيها﴾ يكون هذا الوعد ﴿وَعْدَ اللهِ﴾ وقيل : يعني وعد الله وعدا ، وحقّ ذلك الوعد (٤)﴿حَقًّا﴾ لا يمكن الخلف له ، لأنّه تعالى هو الغنيّ بالذات ، ولا يكذب أحد إلّا للحاجة ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ﴾ والغالب على كلّ شيء ، فلا يقدر أحد على أن يمنعه من إنجاز وعده و﴿الْحَكِيمُ﴾ الذي لا يصدر منه إلّا ما هو مقتضى الحكمة والصلاح.
ثمّ لمّا هدّد سبحانه المشركين بأشدّ العذاب ، ووعد المؤمنين بأعظم الثواب ، ووصف ذاته المقدّسة
__________________
(١) في النسخة : عنه.
(٢) تفسير أبي السعود ٧ : ٧٠.
(٣) تفسير روح البيان ٧ : ٦٦.
(٤) تفسير روح البيان ٧ : ٦٧.