بِأَمْرِهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (٤٦)﴾
ثمّ إنّه لمّا ذكر سبحانه أنّ الشّرك سبب لظهور الفساد في العالم ، نبّه على أنّ التوحيد سبب لصلاحه بقوله : ﴿وَمِنْ آياتِهِ﴾ وعلائم توحيده وقدرته وحكمته ﴿أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ﴾ الشّمال والجنوب والصّبا ، فانّها رياح الرحمة ، لأنّها من روح الله ، حال كونها أو لتكون ﴿مُبَشِّراتٍ﴾ للخلق بالمطر ، ولطافة الهواء ، وصحّة الأبدان ، ووفور النّعم ﴿وَلِيُذِيقَكُمْ﴾ ويطعمكم طعم السّعة والسلامة والراحة الكائنة ﴿مِنْ رَحْمَتِهِ﴾ وإحسانه ، فإنّه لو لم تهبّ الرياح لظهر الوباء والفساد.
وهذا في مقابل قوله : ﴿ظَهَرَ الْفَسادُ﴾ ... ﴿لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا﴾(١) ولمّا كان المشركون بعيدين عنه تعالى ، كنّى عنهم بضمير الغائب ، وكان المؤمنون قريبين منه أتى بضمير الخطاب ، وإنّما علّل ما أصابهم من الشرّ ببعض أعمالهم ، وأسند ما أصابهم من الخير إلى رحمته تقريرا لقوله : ﴿ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللهِ وَما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ﴾(٢) .
﴿وَلِتَجْرِيَ﴾ وتسير ﴿الْفُلْكُ﴾ في البحر بسوق الرياح الهابّة (٣)﴿بِأَمْرِهِ﴾ وتعالى لوضوح أنّ الريح لا تتحرّك بنفسها ، بل لها (٤) محرك ، إلى أن ينتهي إلى محرّك لا محرّك له ولا يتحرّك ، وهو الله الموجد لكلّ شيء ، ومن حركة الرياح ﴿وَلِتَبْتَغُوا﴾ وتطلبوا بركوبها وحمل الأمتعة فيها للتجارة ربحا وفائدة كثيرة ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾ تعالى وجوده لا من كسبكم ، ولمّا كان توفيق الشكر من نعمه عطفه على النّعم بقوله : ﴿وَلَعَلَّكُمْ﴾ بتوفيقه تعالى ﴿تَشْكُرُونَ﴾ نعمه وأفضاله.
﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ
الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَكانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ (٤٧)﴾
ثمّ إنّه تعالى بعد إثبات التوحيد والمعاد ، ذكر أمر الرسالة ، وأظهر المنّة بارسال الرسل ، وفيه تحذير من أخل بالشّكر بقوله : ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ﴾ وفي أعصار قبل عصرك ﴿رُسُلاً﴾ كثيرة عظيمة الشأن ﴿إِلى قَوْمِهِمْ﴾ لهدايتهم إلى توحيدنا ومعرفتنا وشكر نعمتنا ﴿فَجاؤُهُمْ﴾ مستدلين على صدقهم في دعوى الرسالة من الله ﴿بِالْبَيِّناتِ﴾ والمعجزات الباهرات كالعصا وإحياء الموتى ، فكفر كلّ قوم بنعمة إرسال رسولهم وكذّبوه وعارضوه واستهزءوا به ﴿فَانْتَقَمْنا﴾ بإنزال العذاب ﴿مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا﴾ وكذّبوا رسولهم ، وأصروا على شركهم وكفرهم ، وتكذيب رسلهم ، وحفظنا المؤمنين من شرّهم وضرّهم والعذاب النازل عليهم ، ونصرناهم على أعدائهم ﴿وَكانَ حَقًّا﴾ واجبا
__________________
(١) الروم : ٣٠ / ٤١.
(٢) النساء : ٤ / ٧٩.
(٣) في النسخة : المهبة.
(٤) في النسخة : بنفسه ، بل له.