بنظر الاعتبار ﴿كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ﴾ وإلى ما صار مآل كفرانهم ﴿كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ﴾ فإذا كان الأمر كذلك ﴿فَأَقِمْ﴾ يا محمد ﴿وَجْهَكَ﴾ وأقبل بقلبك الشريف ﴿لِلدِّينِ الْقَيِّمِ﴾ البليغ في الاستقامة ﴿مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ﴾ يوم القيامة ، وهو ﴿يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ﴾ ولا مانع عن إتيانه ﴿مِنَ اللهِ﴾.
وقيل : إنّ الظرف متعلّق بفعل يأتي ، والمعنى أنّ اليوم يأتي من الله ، ولا يمكن لأحد أن يمنع من إتيانه (١) . فالخلق ﴿يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ﴾ ويتفرّقون فريق في الجنة وفريق في السعير.
﴿مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَمَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ * لِيَجْزِيَ الَّذِينَ
آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (٤٤) و (٤٥)﴾
ثمّ بيّن سبحانه الفرقتين بقوله : ﴿مَنْ كَفَرَ﴾ بالله ورسله واليوم الآخر ﴿فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ﴾ وضرر ترك إيمانه من العقوبة والنّكال لا على غيره ﴿وَمَنْ﴾ آمن و﴿عَمِلَ﴾ عملا ﴿صالِحاً﴾ مرضيا عند الله ، ويجوز أن يكون المراد هنا من العمل الصالح الايمان ، فانّه عمل القلب واللسان ﴿فَلِأَنْفُسِهِمْ﴾ وحدها منزل الراحة الأبدية ﴿يَمْهَدُونَ﴾ ويهيّئون ، أو يفرشون حتى يستريحون فيه إلى الأبد ، وقيل : يعني لأنفسهم يشفقون (٢) .
وعن الصادق عليهالسلام قال : « إن العمل الصالح ليسبق صاحبه إلى الجنّة ، فيمهّد له كما يمهّد لأحدكم خادمة فراشه »(٣) .
وإنّما كان تفرّقهم بتفريق الله تعالى فرقتين ﴿لِيَجْزِيَ﴾ الله ﴿الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا﴾ الأعمال ﴿الصَّالِحاتِ﴾ الجنة والنّعم العظيمة الأبدية ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾ وجوده ، لا من عدله ، وإنّما قدّم ذكر جزاء المؤمنين إشعارا بسبق رحمته غضبه ، وبأنّه المقصود الأول.
ثمّ كنّى سبحانه من عذاب المشركين بقوله : ﴿إِنَّهُ﴾ تعالى ﴿لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ﴾ فانّ لازم عدم حبّه لهم بغضه إياهم ، ولازمه العذاب الشديد الدائم ، وفيه إشارة إلى أنّه يحبّ المؤمنين ، وهو أفضل الجزاء ، كما أنّ عدم حبّه أشدّ العذاب عند العارفين.
روي أنّ الله تعالى قال لموسى عليهالسلام : « ما خلقت النار بخلا مّني ، ولكن أكره أن أجمع أعدائي وأوليائي في دار واحدة » (٤) .
﴿وَمِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَلِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَلِتَجْرِيَ الْفُلْكُ
__________________
(١) تفسير أبي السعود ٧ : ٦٣ ، تفسير روح البيان ٧ : ٤٧.
(٢) جوامع الجامع : ٣٦٠.
(٣) مجمع البيان ٨ : ٤٨١ ، تفسير الصافي ٤ : ١٣٥.
(٤) تفسير روح البيان ٧ : ٤٨.