خَلَوْا مِن قَبْلُ) ، فكان على إثرها سقوط الحضارات وبزوغ حضارات أخرى عبّر الله عنها في محكم كتابه : (وَتِلْكَ الأيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاء وَاللهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ) ، وكان ملاك التقوى والقيم المعنوية هو المعيار الإلهي في العلاقات بين الشعوب (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَر وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ) ، إلاّ أنّ انحسار تلك القيم كان عاملاً أساسياً في صراع الأمم والحضارات وأفولها وبدأ مرحلة الإنحطاط بعد أن أصبحت البشرية تبني حضاراتها على أنقاظ القيم المعنوية وعلى أرصدة مادّية (أَتَبْنُونَ بِكُلِّ رِيع آيَةً تَعْبَثُونَ * وَتَتَّخِذُونَ مَصَانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ).
إنّ التصوّر الإسلامي للصراع هو نوع من أنواع التكامل المعنوي والتعالي بالقيم المعنوية والإنسانية لا الانتصار بالحروب وإقصاء الطرف الآخر وسحق الشعوب واستعبادها (وَلَوْلاَ دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُم بِبَعْض لَّهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيرًا).
وكانت الحكمة ولا زالت ضالّة الإنسان ، فكانت مراحل الحضارات متزامنة ومضطردة باضطراد الحكمة ، فتهدّمت الحضارات بتهدّم أركان الحكمة فيها ، وبقيت السنن تستخلف حضارات ، إلاّ أنّ السنن بقيت هي السنن ، وبدأت الحكمة تتجاذب أطراف الحوار بين أصحاب الرأي ، وبدأ الصراع يستحوذ على تلك الحوارات ، ولم يستثن هذا الصراع مفكّري الحضارات الأولى حيث كانوا ضحايا تلك الصراعات ، وإنّ الصراع الفكري في الكنيسة في العصور الوسطى كان نموذجاً سيئاً من نماذج تلك الصراعات ، وقبل ذلك بقرون كان الصراع الفكري على أشدّه بين المذاهب الإسلامية ومدارسها ، وراح ضحيّة تلك الحقبة أئمّة ومفكّرون.