قال ابن الأنباريّ : والقول عندنا أنّه أراد : لو كان القرآن في جلد ثمّ ألقي في النار ما أبطلته ؛ لأنّها وإن أحرقته فإنّها لا تدرسه ؛ إذ كان الله قد ضمّنه قلوب الأخيار من عباده.
قال المرتضى رحمه الله : والوجه الصحيح في تأويله هو أنّ هذا من كلام النبيّ عليه السلام على طريق المثل والمبالغة في تعظيم الأمر ، والإخبار عن جلالة قدره وعظم خطره ، والمعنى أنّه لو كتب في إهاب ، وألقي في النار وكانت النار ممّا لا تحرق شيئاً لعلوّ شأنه وجلالته لم تحرقه النار.
ولهذا نظائر في القرآن وكلام العرب كثيرة ؛ فمن ذلك قوله تعالى : (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَل)(١) وكان الجبل ممّا يتصدّع إشفاقاً من شيء ؛ أو خشية لأمر لتصدّع مع صلابته وقوّته ؛ فكيف بكم يا معاشر المكلّفين ، مع ضعفكم(٢)! وأنتم أولى بالخشية والإشفاق ؛ ومثله :
وَلَو أَنَّ ما بي بِالحَصى فُلِقَ الحَصى |
|
وَبِالريحِ لَم يُسمَع لَهُنَّ هُبوبُ(٣) |
وهذه طريقة للعرب مشهورة ؛ يقولون : هذا كلام يفلّق الصّخر ، ويهدّ الجبال ويصرع الطير ، ويستنزل الوعول ؛ وليس ذلك بكذب منهم ؛ بل المعنى أنّه لحسنه وحلاوته وبلاغته يفعل مثل هذه الأمور لو تأتّت ؛ ولو كانت
__________________
(١) الحشر : ٢١ ؛ (لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَل لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَتِلْكَ الأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ).
(٢) ر : (ضعفهم).
(٣) الشعر لأبي هلال الأحدب. (طبقات الشعراء : ٤٥٠).