ليثنوا عليهم بالشّجاعة والسّماحة والغلبة على الخصم ﴿وَيَصُدُّونَ﴾ النّاس ويمنعونهم ﴿عَنْ﴾ السّلوك في ﴿سَبِيلِ اللهِ﴾ والدّخول في دينه.
ثمّ هدّدهم الله على تلك القبائح بقوله : ﴿وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ﴾ من البطر والرّئاء والصدّ ، وغيرها من القبائح ﴿مُحِيطٌ﴾ ومطّلع ، فيجازيهم عليها أسوأ الجزاء.
روي أنّ قريشا لمّا بلغوا الجحفة (١) ، أتاهم رسول أبي سفيان وقال : ارجعوا فقد سلمت عيركم من أصحاب محمّد ونهبهم ، فقال أبو جهل : لا والله ، حتّى نقدم بدرا ونشرب بها الخمور ، وتعزف علينا [ فيها ] القيان ، ونطعم بها من حضرنا من العرب ؛ فوافوها ولكن سقوا كأس المنايا بدل كأس الخمور ، وناحت عليهم النّوائح مكان تغنّي القيان ، فنهى الله المؤمنين أن يكونوا أمثالهم (٢) .
وقيل : إنّه لمّا بلغت (٣) قريش الجحفة ، بعث الحقّاف الكناني - وكان صديقا لأبي جهل إليه بهدايا مع ابن له ، فلمّا أتاه قال : إنّ أبي ينعمك صباحا ، ويقول لك : إن شئت أن أمدّك بالرّجال أمددتك ، وإن شئت أن أزحف إليك بمن معي من قرابتي فعلت.
فقال أبو جهل : قل لأبيك جزاك الله والرّحم خيرا ، إن كنّا نقاتل الله كما يزعم محمّد ؛ فو الله ما لنا بالله من طاقة ، وإن كنّا نقاتل النّاس ؛ فو الله إنّ بنا على النّاس لقوّة ، والله لا نرجع عن قتال محمّد حتى نرد بدرا فنشرب فيها الخمور ، وتعزف علينا فيها القيان ؛ فإنّ بدرا موسم من مواسم العرب ، وسوق من أسواقهم ، حتّى تسمع العرب بهذه الواقعة (٤) .
قيل : إنّما ذكر الله العلّتين الاوليين - وهما البطر والرّئاء - بصيغة المصدر ؛ لأنّ الاسم دالّ على التمكّن والثّبوت ، وكان الوصفان المذكوران متمكّنين فيهم وملكتين لهم ، وذكر العلّة الثّالثة - وهي الصدّ - بصيغة المضارع الدالّة على التجدّد والحدوث. لأنّها حصلت في زمان النبيّ صلىاللهعليهوآله (٥) .
﴿وَإِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَقالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَإِنِّي جارٌ
لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَقالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى
ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللهَ وَاللهُ شَدِيدُ الْعِقابِ إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ
فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ فَإِنَّ اللهَ عَزِيزٌ
حَكِيمٌ (٤٨) و (٤٩)﴾
__________________
(١) الجحفة : قرية كبيرة على طريق مكة ، على أربع مراحل.
(٢) تفسير روح البيان ٣ : ٣٥٤.
(٣) في النسخة : بلغ.
(٤) تفسير الرازي ١٥ : ١٧٢.
(٥) تفسير الرازي ١٥ : ١٧٣ « نحوه » .