﴿وَيُقَلِّلُكُمْ﴾ الله ﴿فِي أَعْيُنِهِمْ﴾ ليجترئوا عليكم قبل اللّقاء ، حتّى قال قائلهم : إنّما هم أكلة جزور. ثمّ كثّرهم في أعين الكفّار لتفجأهم الكثرة ويفتّرهم الرّعب عن القتال ﴿لِيَقْضِيَ اللهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً﴾ قيل : إن التّكرار لاختلاف الفعل المعلّل ، وهو الجمع بين الفريقين على الحالة المذكورة في الأوّل ، وتقليل كلّ فريق في أعين الفريق الآخر في الثّاني ﴿وَإِلَى اللهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ﴾ وبيده تصريفها يغلّب من يشاء ويخذل من يشاء ، لا رادّ لأمره ، ولا معقّب لحكمه.
﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ *
وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللهَ مَعَ
الصَّابِرِينَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَرِئاءَ النَّاسِ
وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ وَاللهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (٤٥) و (٤٧)﴾
ثمّ أنّه تعالى بعد ذكر نعمه على المؤمنين ونصرتهم على الكفّار ، أمرهم بالثّبات والتوكّل عليه وطلب النصر منه ، بقوله : ﴿يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً﴾ وجماعة من الكفّار في معركة القتال ﴿فَاثْبُتُوا﴾ ووطّنوا أنفسكم على الصّبر والنّزال ، ولا تخذلوا أنفسكم بالفرار ﴿وَاذْكُرُوا اللهَ﴾ بالتّكبير والتّهليل في مواقع الشدّة ﴿كَثِيراً﴾ واطلبوا منه الصّبر والثّبات ﴿لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾ وتفوزون بالنّصر والغلبة ، والمثوبة الاخرويّة.
عن ابن عبّاس : أمر الله أولياءه بذكره في أشدّ الأحوال ، تنبيها على أنّ الإنسان لا يجوز أن يخلي قلبه ولسانه عن ذكر الله ، ولو أنّ رجلا أقبل من المغرب إلى المشرق ينفق الأموال سخاء ، والآخر من المشرق إلى المغرب يضرب بسيفه في سبيل الله ، كان الذّكر أعظم أجرا (١) .
ثمّ لمّا كان الجهاد غير نافع إلّا لمن أطاع الله ورسوله ، أمر الله بطاعتهما بقوله : ﴿وَأَطِيعُوا اللهَ وَرَسُولَهُ﴾ في جهاد الكفّار وغيره.
ثمّ نهى عن التّنازع واختلاف الكلمة بقوله : ﴿وَلا تَنازَعُوا﴾ في أمر الجهاد ، ولا تختلف آراؤكم فيه كما اختلفت (٢) ببدر ﴿فَتَفْشَلُوا﴾ وتفتروا فيه وتضعفوا عنه ﴿وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ وشوكتكم ، وتزول دولتكم ، ﴿وَاصْبِرُوا﴾ على شدائد الحرب ومشاقّ منازلة الكفّار ﴿إِنَّ اللهَ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾ في جهاد أعدائه بالنّصرة والحفظ ﴿وَلا تَكُونُوا﴾ أيّها المؤمنون ﴿كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ﴾ وأوطانهم إلى حرب الله ورسوله ﴿بَطَراً﴾ وافتخارا بكثرة العدّة والعدد والنّعم ، وشرف الآباء ﴿وَرِئاءَ النَّاسِ﴾
__________________
(١) تفسير الرازي ١٥ : ١٧١.
(٢) في النسخة : اختلف.