فاجتمعوا في دار النّدوة ، وكان لا يدخل في دار النّدوة إلّا من أتى عليه أربعون سنة ، فدخل أربعون رجلا من مشايخ قريش ، فجاء إبليس في صورة شيخ كبير ، فقال له البوّاب : من أنت ؟ قال : أنا شيخ من أهل نجد لا يعدمكم منّي رأي صائب ، إنّي حيث بلغني اجتماعكم في أمر هذا الرّجل ، فجئت لاشير عليكم. فقال : ادخل ، فدخل إبليس.
فلمّا أخذوا مجلسهم قال أبو جهل : يا معشر قريش ، إنّه لم يكن أحد من العرب أعزّ منّا ، نحن أهل الله ، تفد إلينا العرب في السّنة مرّتين ويكرموننا ، ونحن في حرم الله لا يطمع فينا طامع ، فلم نزل كذلك حتّى نشأ فينا محمّد بن عبد الله ، فكنّا نسميه الأمين لصلاحه وسكونه وصدق لهجته ، حتّى إذا بلغ ما بلغ وأكرمناه ادّعى أنّه رسول الله ، وأن أخبار السّماء تأتيه ، فسفّه أحلامنا ، وسبّ آلهتنا ، وأفسد شباننا ، وفرّق جماعتنا ، وزعم أنّ من مات من أسلافنا ففي النّار ، فلم يرد علينا شيء أعظم من هذا ، وقد رأيت [ فيه ] رأيا ، قالوا : ما رأيت ؟ قال : رأيت أن ندسّ إليه رجلا منّا ليقتله ، فإن طلبت بنو هاشم بدمه أعطيناهم عشر ديات.
فقال الخبيث : هذا رأي خبيث ، قالوا : وكيف ذلك ؟ قال : لأن قاتل محمّد مقتول لا محالة ، فمن هذا الذي يبذل نفسه للقتل منكم ، فإنّه إذا قتل [ محمّد ] تعصّبت بنو هاشم وحلفاؤهم من خزاعة ، وإنّ بني هاشم لا ترضى أن يمشى قاتل محمّد على الأرض ، فتقع بينكم الحرب في حرمكم وتتفانون.
فقال آخر منهم : فعندي رأي آخر ، قال : وما هو ؟ قال : نثبته في بيت ونلقي إليه قوته حتّى يأتي عليه ريب المنون فيموت كما مات زهير والنابغة وامرئ القيس.
فقال إبليس : هذا أخبث من الآخر ، قال : كيف ذلك ؟ قال : لأنّ بني هاشم لا ترضى بذلك ، فإذا جاء موسم من مواسم العرب استغاثوا بهم واجتمعوا عليكم فأخرجوه.
وقال آخر : لا ، ولكنّا نخرجه من بلادنا ، ونتفرّغ نحن لعبادة آلهتنا ، قال إبليس : هذا أخبث من الرّأيين المتقدّمين ، قالوا : وكيف ذلك ؟ قال : لأنّكم تعمدون إلى أصبح النّاس وجها ، وأنطق النّاس لسانا وأفصحهم لهجة ، فتحملونه إلى بوادي العرب فيخدعهم ويسحرهم بلسانه ، فلا يفجأكم إلّا وقد ملأها عليكم خيلا ورجلا. فبقوا حائرين.
ثمّ قالوا لإبليس : فما الرأي فيه يا شيخ ؟ قال : ما فيه إلّا رأي واحد. قالوا : وما هو ؟ قال : يجتمع من كل بطن من بطون قريش واحد ، يكون معهم من بني هاشم رجل ، فيأخذون سكّينة أو حديدة أو سيفا ، فيدخلون عليه فيضربونه كلّهم ضربة واحدة ، حتّى يتفرّق دمه في قريش كلّها ، فلا يستطيع بنو هاشم أن يطلبوا بدمه وقد شاركوا فيه ، وإن سألوكم أن تعطوا الديّة فأعطوهم ثلاث ديات. فقالوا : نعم ، عشر