ثمّ لمّا حصر سبحانه المحرّمات في الأربع ونهى عن تحريم غيرها ، كان مجال توهّم أنّ المحرّمات التي في دين اليهود زائدة على الأربع مع كونها من الله ، فدفعه بقوله : ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ﴾ في سورة الأنعام التي أنزلناها عليك ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ حيث قلنا فيها : ﴿وَعَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ﴾(١) إلى آخره ، وإنما كان ذلك عقوبة لهم ﴿وَما ظَلَمْناهُمْ﴾ بتحريمها عليهم ﴿وَلكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ﴾ بنقضهم الميثاق وبغيهم وارتكابهم الذنوب الموبقة.
﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ
رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (١١٩)﴾
ثمّ لمّا ذكر الله تعالى المعاصي العظام من الافتراء على الله ، والبدعة في الدين وأمثالهما تصريحا وتلويحا ، نبّه على علاجها والسبب المنجي من العذاب عليها بقوله : ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ﴾ وارتكبوا المعصية ﴿بِجَهالَةٍ﴾ وسفاهة وعدم التدبّر في سوء العاقبة كأنّه تعالى قال : إنا قد بالغنا في تهديد الكفار والمفترين ومكذّبي الرسول.
ثمّ بعد ذلك نقول : إنّ الناس إذا ارتكبوا جميع المعاصي بسبب الغفلة والجهل أمدا بعيدا ودهرا دهيرا ﴿ثُمَّ تابُوا﴾ عن معاصيهم وندموا على ما صدر منم ﴿مِنْ بَعْدِ ذلِكَ﴾ الذي علموا ﴿وَأَصْلَحُوا﴾ عقائدهم وأعمالهم بأن صاروا مؤمنين بما يجب الايمان به مطيعين لله ولرسوله ، فاذا صدرت منهم التوبة ﴿إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها﴾ والله ﴿لَغَفُورٌ﴾ للمعاصي كلّها ﴿رَحِيمٌ﴾ بالعصاة التائبين مثيب لهم على توبتهم وإنابتهم.
﴿إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَلَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ * شاكِراً لِأَنْعُمِهِ
اجْتَباهُ وَهَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (١٢١)﴾
ثمّ أنّه تعالى بعد إبطال مذهب الشرك وشبهات المشركين في النبوة وبدعهم في الأحكام وكفرانهم نعم الله ، ذكر توحيد إبراهيم الذي كانوا مفتخرين بالانتساب إليه (٢) ، متّفقين على حسن عقيدته وسيرته ، وذكر انقياده وطاعته لله وشكره لنعمه بقوله : ﴿إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ﴾ وحده ﴿أُمَّةً﴾ من الامم واحدا كالالوف ، لكمال توحيده وإيمانه وصفاته ، ومعارضته مع جميع الناس بالحجج.
__________________
(١) الأنعام : ٦ / ١٤٦.
(٢) في النسخة : بالانتساب به.