طَبَعَ اللهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ وَأَبْصارِهِمْ وَأُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ﴾(١) عن وخامة عاقبتهم ، وعمّا يراد بهم من العذاب الدائم ﴿لا جَرَمَ﴾ وحقّا ﴿أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ﴾ حيث ضيّعوا فطرتهم وأعمارهم وصرفوها في تحصيل العذاب الدائم مع تمكّنهم من صرفها في تحصيل النّعم الدائمة والراحة الأبدية ، فلا أخسر منهم ، بل لعظم خسرانهم كأنّه لا خاسر غيرهم.
﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَصَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ
بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ * يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَتُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ
ما عَمِلَتْ وَهُمْ لا يُظْلَمُونَ (١١٠) و (١١١)﴾
ثمّ بيّن سبحانه غاية لطفه بالذين عذّبهم الكفار وأكرهوهم على الكفر بقوله : ﴿ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا﴾ من أوطانهم حفظا لدينهم ونصرة لنبيهم ﴿مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا﴾ وعذّبوا بجور المشركين واكرهوا على كلمة الكفر ﴿ثُمَّ جاهَدُوا﴾ في سبيل الله ﴿وَصَبَرُوا﴾ على فتنة الكفّار ومتاعب الهجرة ومشاقّ المجاهدة ﴿إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها﴾ بلطفه وكرمة ﴿لَغَفُورٌ﴾ لما صدر عنهم من كلمة الكفر وسائر الزلّات ﴿رَحِيمٌ﴾ بهم ومنعم عليهم بالجنّة وسائر الخيرات.
ثمّ بيّن سبحانه أنّ غفرانه لهم ورحمته عليهم يكونان في وقت غاية الحاجة إليهما بقوله : ﴿يَوْمَ﴾ وقيل : إنّ التقدير اذكر يا محمّد (٢) أو ذكّرهم يوم ﴿تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ﴾ مؤمنة أو كافرة برّة أو فاجرة ﴿تُجادِلُ﴾ وتخاصم دفاعا ﴿عَنْ نَفْسِها﴾ وشخصها.
عن ابن عبّاس : ما تزال الخصومة بين الناس يوم القيامة حتّى يخاصم الروح الجسد ، يقول الروح : يا ربّ ، لم يكن لي يد أبطش بها ولا رجل أمشي بها ، ولا عين أبصر بها. ويقول الجسد : خلقتني كالخشب ، ليست لي يد أبطش [ بها ] ، ولا رجل أمشي بها ، ولا عين أبصر بها ، فجاء هذا كشعاع النور فيه نطق لساني ، وأبصرت عيني ، ومشت رجلي. قال : فيضرب لهما مثلا ؛ مثل الأعمى والمقعد دخلا حائطا وفيه ثمار ، فالأعمى لا يبصر الثّمار ، والمقعد لا ينالها ، فحمل الأعمى المقعد فأصابا من الثّمر ، فعليهما العذاب (٣) .
وقيل : إنّ المعنى أنّ كلّ نفس تجادل نفسه ، فيقول المطيع : لم لم اكثر من طاعة ربّي ؟ ويقول العاصي لنفسه : لم عصيت ربّي.
__________________
(١) تفسير العياشي ٣ : ٢٦ / ٢٤٣٦ ، تفسير الصافي ٣ : ١٥٨.
(٢) تفسير روح البيان ٥ : ٨٧.
(٣) تفسير روح البيان ٥ : ٨٨.