ثمّ نفى سبحانه الكذب عن نبيّه صلىاللهعليهوآله وأثبته للمشركين بقوله : ﴿إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ﴾ ويقول ما هو خلاف الواقع عن علم وعمد ﴿الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ﴾ ولا يصدّقونها عنادا ولجاجا ، ويدّعون أنّ الآيات افتراء وكذب ، فانّهم اللائقون بالكذب ﴿وَأُولئِكَ﴾ المتّصفون بأخبث الصفات ﴿هُمُ الْكاذِبُونَ﴾ في الحقيقة المبالغون في الكذب لعدم خوفهم من عقاب الله ، لا النبيّ الصادق المصدّق الذي هو أخوف الخائفين ورأس المؤمنين.
ثمّ لمّا حكى الله سبحانه شبهات المشركين في صدق القرآن ونبوّة النبيّ صلىاللهعليهوآله طمعا في ارتداد المسلمين ، هدّد المرتدّين بقوله : ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللهِ﴾ بسبب شبهات المشركين ﴿مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ﴾ ووضوح الحقّ عنده ، كان من كان ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ﴾ على إظهار الكفر باللسان ﴿وَ﴾ الحال أنه ﴿قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌ﴾ وموقن ﴿بِالْإِيمانِ﴾ ومستقرّ على التوحيد ونبوّة النبيّ وصدق القرآن.
قيل : إنّ قوله : ﴿مَنْ كَفَرَ بِاللهِ﴾ بدل من قوله : ﴿الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللهِ﴾ والمعنى إنّما يفتري الكذب من كفر بالله ، وقوله : ﴿أُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ﴾ اعتراض بين المبدل وبدله (١) وقيل : بدل من ﴿الْكاذِبُونَ﴾ والمعنى اولئك هم من كفر بالله (٢) . وقيل : إنّه منصوب على الذمّ ، والمعنى اولئك هم الكاذبون ، أعني من كفر بالله (٣) .
ثمّ أنه تعالى بعد استثناء المكرهين بيّن الكافر المذموم بقوله : ﴿وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً﴾ وطاب به نفسا ﴿فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ﴾ عظيم ﴿مِنَ اللهِ﴾ في الدنيا ﴿وَلَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ﴾ في الآخرة.
عن ابن عبّاس : نزلت الآية في عمّار ، وذلك أنّ كفّار قريش أخذوه وأبويه ياسر وسميّة وصهيبا وبلالا وخبّابا وسالما فعذّبوهم ليرتدّوا ، فأبى أبوا عمّار ، فربطوا سميّة بين بعيرين وضربت بحربة في قلبها ، وقالوا : إنّما أسلمت من أجل الرجال والتعشّق بهم فقتلوها ، وقتلوا ياسرا ، وهما أول قتيلين في الاسلام ، وأمّا عمّار فكان ضعيف البدن فلم يطق لعذابهم ، فأعطاهم بلسانه ما أكرهوه عليه ، وهو سبّ النبيّ صلىاللهعليهوآله وذكر الأصنام بخير ، فقالوا : يا رسول الله ، إنّ عمّارا كفر. فقال : « كلا ، إنّ عمّارا ملئ إيمانا من قرنه إلى قدميه ، واختلط الايمان بلحمه ودمه » فأتى عمّار رسول الله صلىاللهعليهوآله وهو يبكي ، فجعل رسول الله صلىاللهعليهوآله يمسح عينيه ، وقال : « مالك ، إن عادوا لك فعد لهم بما قلت » (٤) .
القمي : ﴿إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ﴾ فهو عمّار بن ياسر ، أخذته قريش بمكة فعذّبوه بالنار حتّى أعطاهم بلسانه ما أرادوا وقلبه مطمئن ومقرّ بالايمان ﴿وَلكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً﴾
__________________
( ١و٣ ) تفسير الرازي ٢٠ : ١٢٠.
(٤) تفسير روح البيان ٥ : ٨٤ ، تفسير الرازي ٢٠ : ١٢١ ، تفسير أبي السعود ٥ : ١٤٣.