في بيان واقعة بدر
روى بعض العامّة أنّ عير قريش - أي قافلتهم - أقبلت من الشّام وفيها تجارة كثيرة عظيمة ، ومعها أربعون راكبا منهم أبو سفيان وعمرو بن العاص ومخرمة بن نوفل ، وكان في السنة الثانية من الهجرة ، فأخبر جبرئيل رسول الله صلىاللهعليهوآله بإقبالها ، فأخبر المسلمين ، فأعجبهم تلقّيها لكثرة المال وقلّة الرّجال ، فلمّا خرجوا سمع أبو سفيان فاستأجر ضمضم بن عمرو الغفاري ، فبعثه إلى مكّة ، وأمره أن يأتي قريشا فيستنفزّهم ، ويخبرهم أنّ محمدا قد اعترض لعيركم فأدركوها ، فلمّا بلغ أهل مكّة هذا الخبر نادى أبو جهل فوق الكعبة : يا أهل مكّة : النّجاء النّجاء على كلّ صعب وذلول ، عيركم وأموالكم - أي أدركوها - إن أصابها محمّد لن تفلحوا بعدها أبدا.
وقد رأت عاتكة اخت العباس بن عبد المطلب قبل قدوم ضمضم مكّة بثلاث ليال رؤيا فقالت لأخيها : إنّي رأيت عجبا ، كأنّ ملكا نزل من السماء وأخذ صخرة من الجبل ثمّ حلّق بها - أي رمى بها - إلى فوق ، فلم يبق بيت من بيوت مكّة إلّا أصابه حجر من تلك الصّخرة ، فحدّث بها العباس صديقا له يقال له عتبة بن ربيعة بن عبد شمس ، وذكرها عتبة لبنت له ، ففشا الحديث. فقال أبو جهل للعبّاس : يا أبا الفضل ، أما يرضى رجالكم أن تنبّأوا حتّى تنبّأت نساؤكم ، فخرج أبو جهل بأهل مكّة وهم النّفير ، فقيل له : إنّ العير أخذت طريق السّاحل ونجت ، فارجع بالناس إلى مكّة ، فقال : لا والله ، لا يكون ذلك أبدا حتّى ننحر الجزور ، ونشرب الخمور ، ونقيم القينات (١) والمعازف ببدر ، فتتسامع جميع العرب بمخرجنا ، وإنّ محمدا لم يصب العير ، وإنّا قد أغضضناه.
فمضى بهم إلى بدر - وبدر ماء كانت العرب تجتمع فيه لسوقهم يوما في السّنة - فنزل جبرئيل فقال : يا محمّد ، إنّ الله وعدكم إحدى الطائفتين ؛ إمّا العير ، وإمّا قريشا ، فاستشار النبيّ صلىاللهعليهوآله أصحابه فقال : « ما تقولون ، إنّ القوم قد خرجوا من مكّة على كل صعب وذلول ؟ فالعير أحبّ إليكم أم النّفير ؟ » فقالوا : بل العير أحبّ إلينا من لقاء العدو. فتغيّر وجه رسول الله صلىاللهعليهوآله ، ثمّ ردّد عليهم فقال : « إنّ العير قد مضت على ساحل البحر ، وهذا أبو جهل قد أقبل » - يريد النبيّ صلىاللهعليهوآله بذلك أنّ تلقّي النّفير وجهاد المشركين آثر عنده وأنفع للمؤمنين من الظّفر بالعير ، لما في تلقّي النّفير من كسر شوكة المشركين ، وإظهار الدّين الحقّ على الأديان كلّها ، فقالوا : يا رسول الله ، عليك بالعير ودع العدوّ.
فقام عند ما غضب رسول الله صلىاللهعليهوآله أبو بكر وعمر ، فأحسنا الكلام (٢) في اتّباع مراد الرّسول صلىاللهعليهوآله ، ثمّ
__________________
(١) القينات : جمع قينة ، الأمة مغنية كانت أو غير مغنية.
(٢) الذي في ( صحيح مسلم ) : فتكلّم أبو بكر فأعرض عنه ، ثم تكلّم عمر فأعرض عنه ، ونص كلام أبي بكر وعمر الذي أعرض عن الرسول صلىاللهعليهوآله سيأتي برواية القمي ، ونقله أيضا الواقدي في ( المغازي ) والمقريزي في ( الامتاع والمؤانة ) . راجع : معالم المدرستين ١ : ٢٣٥.