وقيل : إنّه استدلال مستقلّ على توحيده ، وليس متمّما للدليل السابق ؛ لأنّ المشركين لم يكونوا شاكّين في استناد الحوادث الأرضية من نزول الأمطار وإنبات النباتات إلى الله ، كما قال سبحانه : ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللهُ﴾(١) وإنّما المقصود من ذكر هذا الدليل أنّ من هذا شأنه لا يجوز أن يتوهّم له شريك من الموجودات.
﴿وَما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (١٣)﴾
ثمّ عاد سبحانه إلى الاستدلال بالآيات الأرضية بقوله : ﴿وَما ذَرَأَ﴾ وخلق ﴿لَكُمْ فِي الْأَرْضِ﴾ من الحيوانات والنباتات مسخرة لكم ، أو مسخّر لله تعالى حال كونه ﴿مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ﴾ وأصنافه أو تراه مختلفا ﴿إِنَّ فِي ذلِكَ﴾ التسخير والله ﴿لَآيَةً﴾ ودلالة واضحة على توحيد المسخّر له ﴿لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ﴾ ويلتفتون إلى ذلك بأدنى التفات ، ولا يغفلون عمّا علموا بالضرورة من العقل ، فانّا نرى في حبّة من العنب طبائع مختلفة ؛ لقشره طبيعة ، ولعجمه طبيعة ، وللحمه طبيعة ، ولمائه طبيعة ، بل نرى في ورقه من الورد ألوانا مختلفة مع كونها في غاية اللطافة وكون تأثير الأنجم والأفلاك والهواء والماء والشراب فيها واحدا ، والطبيعة الواحدة في المادة الواحدة لا تؤثر إلّا أثرا واحدا ، فنعلم أنّ المؤثّر في هذا الاختلاف ليس إلّا الفاعل القادر الحكيم المختار.
﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً
تَلْبَسُونَها وَتَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَلِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (١٤)﴾
ثمّ استدلّ سبحانه على توحيده بعجائب البحر بقوله : ﴿وَهُوَ﴾ القادر ﴿الَّذِي سَخَّرَ﴾ لكم ﴿الْبَحْرَ﴾ وجعله تحت تصرّفكم ومحلّ انتفاعكم باصطيادكم منه السمك ﴿لِتَأْكُلُوا مِنْهُ﴾ باصطياده ﴿لَحْماً طَرِيًّا﴾ وعذبا لطيفا مع كون مائه مالحا زعاقا (٢) ، وبالغوص فيه لأجل أن تغوصوا فيه ﴿وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً﴾ وزينة مثل اللؤلؤ والمرجان ، فتخيطونها (٣) بالثياب ، ثمّ ﴿تَلْبَسُونَها﴾ فكأنها كانت زينة ولباسا ، ومحلّ انتفاعكم بالركوب وحمل الأمتعة ﴿وَ﴾ كذا ﴿تَرَى الْفُلْكَ﴾ والسفن ﴿مَواخِرَ﴾ وجاريات ﴿فِيهِ﴾ لتركبوها ﴿وَلِتَبْتَغُوا﴾ من رزق الله ، وتطلبوا ﴿مِنْ فَضْلِهِ﴾ وإنعامه بالتجارة وحمل الأمتعة إلى البلدان والقرى البعيدة ﴿وَلَعَلَّكُمْ﴾ تعرفون نعم الله و﴿تَشْكُرُونَ﴾ أفضاله بالاعتراف بتوحيده والقيام بعبادته.
__________________
(١) العنكبوت : ٢٩ / ٦٣.
(٢) الزّعاق من الماء : المرّ الغليظ لا يطاق شربه.
(٣) في النسخة : فتخوطونهما.