قدير ومدبّر حكيم ﴿لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾ ويتعقّلون غرائب الصنع والحكم البالغة فيها ، فانّ من تفكّر في أنّ الحبّة أو النواة تقع في الأرض وتصل إليها نداوة تنفذ فيها ، فينشقّ أسفلها فتخرج منه عروق تنبسط في أعماق الأرض ، وينشقّ أعلاها وإن كانت متنكّسة في الوقوع ، ويخرج منها ساق فيسمو ، وتخرج منه الأوراق والأزهار والحبوب والثمار المشتملة على أجسام مختلفة الأشكال والألوان والطّباع والخواصّ ، وعلى نواة قابلة لتوليد الأمثال على النّمط المحرّر إلى غير نهاية مع اتحاد المولود واستواء نسبة الطبائع السفلية والتأثرات العلوية بالنسبة إلى الكلّ ، يستدلّ على أنّ خالقها موجود لا يشبهه شيء في شيء من صفاته وكمالاته ، فضلا عن أن يشاركه الجماد الذي هو أخسّ الأشياء في الوهيته واستحقاقه العبادة الذي هو أخصّ صفاته ، ولمّا كان الاستدلال بتلك الأشياء محتاجا إلى ترتيب مقدّمات فكرية خصّ الاستدلال بها بأهل الفكر والتدبّر.
﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ وَالنُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي
ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (١٢)﴾
ثمّ لمّا كان مجال توهّم استناد نزول الأمطار ونبت الزروع والأشجار وأثمارها إلى الحركات الفلكية واتصالات الكواكب ، دفع سبحانه التوهّم بقوله : ﴿وَسَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَالنَّهارَ﴾ وجعلهما متعاقبين لإنضاج ثماركم ، وتنظيم معاشكم وغير ذلك من منافعكم ومصالحكم ، كأنّهما يختلفان على حسب إرادتكم ﴿وَ﴾ سخّر ﴿الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ وجعلهما يد أبان في سيرهما وإنارتهما ، وإصلاح ما يناط (١) بهما صلاحه من الموجودات التي منها بأفضل وأجمل ﴿وَالنُّجُومُ﴾ في حركاتها وأوضاعها من التثليث والتربيع والارتفاع والانخفاض وغيرها ﴿مُسَخَّراتٌ﴾ لكم ودائرات في مصالحكم ﴿بِأَمْرِهِ﴾ تعالى وإرادته.
وحاصل الدفع أنّ الحوادث السفلية لو كانت مستندة إلى الحركات الفلكية والكوكبية ، فلا بدّ أن تكون تلك الحركات مستندة إلى محرّك ، لعدم اقتضاء الجسمية للحركة ، وإلّا لتحرّك كلّ جسم ، ولا يمكن أن يكون فلك آخر ، للزوم التسلسل المحال ، فوجب أن تكون مستندة إلى إرادة قادر مدبر حكيم وهو الله تعالى.
ثمّ لمّا كانت تمامية هذا الدليل بمقدّمات عقلية ، ختم سبحانه الآية بقوله : ﴿إِنَّ فِي ذلِكَ﴾ المذكور والله ﴿لَآياتٍ﴾ وأنواع دلالات على توحيد الله وعظمته ﴿لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾
__________________
(١) في النسخة : ينط.