المتعلّق بمحيط العالم بقوله : ﴿خَلَقَ السَّماواتِ وَالْأَرْضَ﴾(١) . ثمّ بيّن صنعه المتعلّق بما بينهما ، فبدأ بما يتعلّق بأنفس المخاطبين ، ثمّ أردفه بما يتعلّق بما فيه ضرورة معايشهم ، ثمّ بما يتعلّق بمنافعهم غير الضرورية ، ثمّ بيّن قدرته على ما لا يحيط به علم البشر ، وهذه غاية اللطف ونهاية الرحمة.
ثمّ نبّه على قدرته على إلجاء الناس إلى معرفته وتوحيده وسلطنته على قلوبهم بقوله : ﴿وَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ إلى توحيده ومعارفه بالالجاء والاضطرار كما تكونون مضطرين إليه في الآخرة.
﴿هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَمِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ *
يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَالزَّيْتُونَ وَالنَّخِيلَ وَالْأَعْنابَ وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي
ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (١٠) و (١١)﴾
ثمّ استدلّ على توحيده وقدرته بانزال المطر وإنبات النباتات بقوله : ﴿هُوَ الَّذِي﴾ بقدرته وحكمته ﴿أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ﴾ المطلّ (٢) ، أو من جانب العلوّ ، أو من السّحاب ﴿ماءً﴾ نافعا بالأمطار ، فيحصل ﴿لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ﴾ تشربون ﴿وَ﴾ يتكوّن ﴿مِنْهُ﴾ بغير صنعكم ﴿شَجَرٌ﴾ ونبات ذو ساق أو غير ذي ساق في البراري والجبال ، وأنتم ﴿فِيهِ تُسِيمُونَ﴾ وترعون مواشيكم ، ومن منافع المطر أنّ الله ﴿يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ﴾ من الأرض ﴿الزَّرْعَ﴾ الذي هو أصل أغذيتكم وعمود معاشكم ﴿وَالزَّيْتُونَ﴾ الذي هو أشرف الأشجار من حيث كون ثمره إداما من وجه وفاكهة من وجه ﴿وَالنَّخِيلَ﴾ الذي روي أنّها خلقت من فضل طينة آدم ، وأنّها أكرم الأشجار على الله (٣)﴿وَالْأَعْنابَ﴾ التي هي بعد النخل أنفع الأشجار ، وإنما جمع الأعناب للاشارة إلى (٤) كثرة أصنافها ، وخصّ تلك الأنواع بالذكر للاشعار بفضلها.
ثمّ ذكر سائر الثّمار بنحو العموم بقوله : ﴿وَمِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ﴾ قيل : إنّما قدّم ما هو غذاء الأنعام في الذّكر لحصوله بغير صنع البشر ، أو للاشعار بفضيلة اغتداء الإنسان به رياضة للنفس ، أو لكون أكثر المخاطبين أصحاب المواشي دون الزرع والبستان ، أو للارشاد إلى اهتمام الناس بأمر ما تحت أيديهم أزيد من الاهتمام بأمر نفسه.
ثمّ أنّه تعالى بعد تعداد آيات وحدانيته ، حثّ الناس إلى التفكّر فيها بقوله : ﴿إِنَّ فِي ذلِكَ﴾ المذكور من إنزال المطر وإنبات النباتات المفصّلة والله ﴿لَآيَةً﴾ عظيمة ودلالات واضحة على وجود صانع
__________________
(١) النحل : ١٦ / ٣.
(٢) السماء مؤنث ، وقد تذكّر.
(٣) تفسير روح البيان ٥ : ١٥.
(٤) في النسخة : أن.