جميعا إلى المحشر دفعة واحدة لجزاء الأعمال بلا تقدّم وتأخّر ﴿إِنَّهُ﴾ تعالى ﴿حَكِيمٌ﴾ ومحيط بحقائق الأشياء ومصالحها ومفاسدها ، متقن في فعاله ، فلا يخلق الخلق لعبا وعبثا ﴿عَلِيمٌ﴾ بخفيّات السماوات والأرض ، لا يعزب عن علمه شيء ، فيعلم ذرات تراب كلّ جسد فيجمعه ويخلقه ثانيا بصورته الأولى ، وفي تقدّم صفة الحكمة دلالة على اقتضائها الحشر للجزاء ، وفي الآية ردّ على منكريه.
﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * وَالْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ
مِنْ نارِ السَّمُومِ (٢٦) و (٢٧)﴾
ثمّ استدلّ على الحشر ببدو خلق الانسان بغير مثال سابق من تراب بقوله : ﴿وَلَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ﴾ الأول وهو آدم ﴿مِنْ صَلْصالٍ﴾ وطين يابس غير مطبوخ ، إذا نقر كان له صوت مع الترجيع كما قيل (١) ، وكان ذلك الصلصال ﴿مِنْ حَمَإٍ﴾ وطين أسود متغير بطول مجاورة الماء ﴿مَسْنُونٍ﴾ ومنتن على قول (٢) ، أو مصوّر على قول (٣) ، أو مصبوب ومفرغ على هيئة الانسان ، كما تفرغ الصور من الجواهر المذابة في القوالب (٤) ولعله المراد من قول ابن عباس المسنون : الطين الرطب (٥) ، فكأنه سبحانه أفرغ الحمأ فصوّر تمثال الانسان أجوف فيبس حتى إذا نقر صوّت.
قيل : لمّا صوّره الله تركه في الشمس أربعين سنة ، فصار صلصالا كالخزف ، ولا يدري أحد ما يراد به ، ولم ير شيئا يشبهه ، فكانت الريح إذا مرّت به سمع له صلصلة ، فلذلك سمّاه الله صلصالا (٦) .
﴿وَالْجَانَ﴾ الأول ، وهو إبليس على قول (٧) ، أو غيره ﴿خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ﴾ عن ابن عبّاس : من قبل خلق آدم (٨)﴿مِنْ نارِ السَّمُومِ﴾ والشديدة الحرّ ، أو لا دخان له ، أو نافذة بلطافتها في مسامّ البدن.
عن ابن مسعود : هذه السّموم جزء من سبعين جزءا من السّموم التي خلق الله منها الجنّ (٩) .
وقيل : لم تكن قبل آدم خلق من تراب ، وإنّما خلقه الله منه ليكون عبدا خضوعا وضوعا ذلولا مائلا إلى السجود لأنّه إظهار كمال العبودية ، ولمّا كان كلّ جنس مائلا إلى جنسه وظاهرا فيه آثار مبدئه ، تواضع آدم لله ، واستكبر إبليس من التواضع (١٠) .
__________________
(١) تفسير الرازي ١٩ : ١٧٩ ، تفسير روح البيان ٤ : ٤٥٧.
(٢) تفسير روح البيان ٤ : ٤٥٧.
(٣) مجمع البيان ٦ : ٥١٦ ، تفسير الصافي ٤ : ٤٥٧.
(٤) تفسير روح البيان ٤ : ٤٥٧.
(٥) مجمع البيان ٦ : ٥١٦ ، تفسير الرازي ١٩ : ١٨٠.
(٦) تفسير الرازي ١٩ : ١٧٩.
(٧) تفسير الرازي ١٩ : ١٨٠ ، تفسير روح البيان ٤ : ٤٥٨.
(٨ و٩) تفسير الرازي ١٩ : ١٨٠.
(١٠) تفسير روح البيان ٤ : ٤٥٨.