ثمّ أنّه تعالى بعد تخويف المشركين بأهوال القيامة ، أمر نبيه صلىاللهعليهوآله بتخويفهم من عذابه بقوله : ﴿وَأَنْذِرِ النَّاسَ﴾ يا نذير البشر ﴿يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ﴾ المعهود ، وهو عذاب يوم القيامة ﴿فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا﴾ أنفسهم باختيار وعمل المعاصي وتكذيب الرسل عند رؤيتهم العذاب : ﴿رَبَّنا﴾ ردّنا إلى الدنيا و﴿أَخِّرْنا﴾ وأمهلنا فيها ﴿إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ﴾ وأمد قليل ﴿نُجِبْ﴾ إذن ﴿دَعْوَتَكَ﴾ إلى توحيدك وطاعتك ﴿وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ﴾ ونعمل بقولهم ، ونتدارك ما فرّطنا فيه ، فيقال لهم توبيخا وتبكيتا : هيهات ألم نمهلكم فيها ﴿أَ وَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ﴾ وحلفتم بألسنتكم ، أو بلسان حالكم ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ وفي زمان حياتكم حيث بنيتم شديدا وأمّلتم (١) بعيدا غرورا واستكبارا على أنّه ﴿ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ﴾ وانصراف عن التمتّع بالمشتهيات والشرك وتكذيب الرسل ، أو من زوال من هذه الدنيا وخروج منها ورجوع إلى دار الجزاء ، مع أنّه قد تمّت عليكم الحجّة.
﴿وَسَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ﴾ بالكفر والطّغيان كعاد وثمود ﴿وَتَبَيَّنَ لَكُمْ﴾ بمشاهدة الآثار وتواتر الأخبار أنا ﴿كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ﴾ وعاملنا معهم من الإهلاك والعقوبة بسيئاتهم ﴿وَضَرَبْنا لَكُمُ﴾ في هذا القرآن العظيم ﴿الْأَمْثالَ﴾ وبيّنا لكم ممّا فعلوا وفعل بهم ما يكون فيه غاية الاعتبار ، ومع ذلك لم تحدّثوا أنفسكم (٢) أنّ أعمالكم كأعمالهم ومالكم كمالهم فترتدعوا عمّا كنتم فيه من الكفر والطّغيان (٣) وتكذيب الرسل ، فلو رجعتم إلى الدنيا بعد هذا اليوم لترجعنّ إلى ما كنتم عليه ، ولا ينفعكم النّصح والموعظة.
﴿وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ
الْجِبالُ (٤٦)﴾
ثمّ لمّا هدّد سبحانه المشركين المكذّبين للرسول بأهوال القيامة وشدائدها وعذابها ، بيّن شدّة سعيهم ومكرهم في إطفاء نور النبي صلىاللهعليهوآله وإبطال الحقّ ، ووبخهم عليه بقوله ﴿وَقَدْ مَكَرُوا﴾ وسعوا بتدبيراتهم في إخلال أمر النبوة وإطفاء نور الرسالة ﴿مَكْرَهُمْ﴾ العظيم المقدور لهم ، وجهدهم البليغ الميسور لهم ، بحيث لا يمكنهم فوقه ﴿وَعِنْدَ اللهِ﴾ محفوظ ومكتوب ﴿مَكْرَهُمْ﴾ ليجازيهم بما هو أعظم من مكرهم ﴿وَإِنْ كانَ مَكْرُهُمْ﴾ في العظم والشدّة ﴿لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ﴾ من أماكنها ومقارّها.
قيل : يعني مساو في العظم لازالتها من محالّها (٤) ، وقوله : ﴿لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ﴾ كناية عن غاية المتانة
__________________
(١) في النسخة : وأمنتم ، وما أثبتناه من روح البيان ٤ : ٤٣٣.
(٢) في النسخة : لأنفسكم.
(٣) في النسخة : والطاغين.
(٤) تفسير البيضاوي ١ : ٥٢٢ ، تفسير روح البيان ٤ : ٤٣٥.