ثمّ لمّا نسب الكفّار الدعوة إليهم نفوها عن أنفسهم ونسبوها إلى الله بقولهم : ﴿يَدْعُوكُمْ﴾ الله إليه وإلى توحيده بألسنتنا ﴿لِيَغْفِرَ لَكُمْ﴾ ما كان بينكم وبينه ﴿مِنْ ذُنُوبِكُمْ﴾ لا ما كان بينكم وبين النّاس من المظالم.
وقيل : إن كلمة ( من ) زائدة (١) ، والمراد ليغفر لكم جميع ذنوبكم ، وفيه بشارتكم بغاية الرحمة والكرم.
ثمّ بشروهم بجزائهم في الدنيا بقولهم : ﴿وَيُؤَخِّرَكُمْ﴾ ويؤجّل موتكم ﴿إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى﴾ وأخّر أعماركم التي قدّر لكم فيها بأن لا ينزل عليكم العقوبة والهلاك.
عن ابن عبّاس ، قال : المعنى يمتّعكم في الدنيا بالطيبات واللذات إلى الموت (٢) .
ثمّ استدلّ الكفّار على بطلان دعوى الرسل و﴿قالُوا﴾ أولا : ﴿إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا﴾ ويمتنع أن يكون الرسول من البشر ، بل لا بدّ أن يكون ملكا ، أو المراد لا فضيلة لكم علينا ، فإرسالكم ترجيح بلا مرجّح.
وثانيا : أن آباءنا الأقدمين مع وفور عقلهم كانوا يعبدون الأصنام في أعمارهم المتطاولة ، فلا بدّ لنا من أن نتّبعهم ونلتزم بما التزموا به ، وأنتم ﴿تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا﴾ وتصرفونا ﴿عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا﴾ من الأصنام إلى عبادة الله.
وثالثا : يجب عليكم أن تاتونا بالدليل القاطع على دعواكم وما اتيتم به وسمّيتموه معجزة ، وحسبتموه دليلا على صدق دعواكم ، فما علمنا بكونه إعجازا وخارجا عن طوق البشر ، فان كنتم صادقين في دعوى الرسالة ﴿فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ﴾ ومعجزة لا يشكّ في كونها معجزة حتى نصدّقكم في دعوى رسالتكم ، وننصرف عما كنا ثابتين عليه من عبادة الأصنام ﴿قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ﴾ إلزاما لهم وإبطالا لقولهم : نعم ﴿إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ﴾ في الصورة ، ولا مجال لانكاره ﴿وَلكِنَّ اللهَ يَمُنُ﴾ وينعم بالنبوة والوحي ﴿عَلى مَنْ يَشاءُ﴾ نبوته ﴿مِنْ عِبادِهِ﴾ نظرا إلى طيب طينته ووفور عقله ، وقوه نفسه ، وكمال صفاته ، وتنوّر قلبه ، وشرح صدره ، فانّ النبوة منصب يعطيه الله من يراه قابلا له من جهة كمال نفسه وصلوحه للوساطة بينه وبين خلقه فيوحي إليه.
ثمّ لمّا كان دليل التقليد أظهر فسادا من أن يحتاج إلى الجواب ، أعرضوا عنه ولم يتعرضوا لدفعه ، وأجابوا عن اعتراضهم الثالث ، وحاصله : إنّا عبيد مربوبون ﴿وَما كانَ﴾ يصحّ ﴿لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ﴾ ومعجزة جزئية ﴿إِلَّا بِإِذْنِ اللهِ﴾ ومشيئته فضلا عن السلطان المبين والمعجزة العظيمة
__________________
(١) تفسير الرازي ١٩ : ٩٣.
(٢) تفسير الرازي ١٩ : ٩٥.