ثمّ لمّا كان اقتراح الكفّار على النبيّ صلىاللهعليهوآله مقرونا باستهزائه ، بالغ سبحانه في تسليته بقوله : ﴿وَلَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ﴾ كما استهزأ قومك بك ﴿فَأَمْلَيْتُ﴾ وأمهلت ﴿لِلَّذِينَ كَفَرُوا﴾ في الأخذ والعقوبة ﴿ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ﴾ بغتة بالعقاب ﴿فَكَيْفَ كانَ عِقابِ﴾ النازل على هؤلاء الأقوام ، وكيف رأيت وسمعت معاملتي معهم ؟ ! وفي الاستفهام التعجّبي (١) إشارة إلى غاية شدّة عقوبتهم.
﴿أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَجَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ
تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا
مَكْرُهُمْ وَصُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (٣٣)﴾
ثمّ وبّخ الله المشركين على ضعف عقولهم بإظهار التعجّب من سوء عقيدتهم بقوله : ﴿أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ﴾ وقاهر ﴿عَلى كُلِّ نَفْسٍ﴾ من النفوس ، مؤمنة كانت أو كافرة ، وقيّم عليها ، وعالم ﴿بِما كَسَبَتْ﴾ من الطاعات والسيئات وجازيها حسب استحقاقها من الثواب والعقاب ، كيف يمكن أن يكون كالأصنام التي لا قدرة ولا علم ولا شعور لها ، فما أعجب كفر هؤلاء إذ سوّوا بين الكامل القادر على كلّ شيء والعالم بكلّ شيء ، وبين الجمادات ﴿وَجَعَلُوا﴾ تلك الأصنام ﴿لِلَّهِ﴾ العظيم المتعال ﴿شُرَكاءَ﴾ في الالوهية والعبادة مع علمهم بعدم التساوي بينهما.
وقيل : إنّ المعنى أفمن هو قائم على كلّ نفس بما كسبت لم يوحّدوه ولم يمجّدوه ، وجعلوا لله شركاء (٢) .
ثمّ أمر نبيه بإقامة الحجّة على بطلان شركهم بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمّد ، لهؤلاء المشركين ما هذه الأصنام التي تعبدونها ؟ ﴿سَمُّوهُمْ﴾ وبيّنوا ما يقال لهم وصفوهم بأوصافهم ، فانظروا هل لهم صفة يستحقّون بها العبادة ، فان لم يكن لهم اسم يشير إلى تلك الصفة ، فكيف تشركون بهم مع الذات المستجمع لجميع الصفات الكمالية المعطي لكلّ شيء ما به كماله ؟
وقيل : إنّ كلمة ( سمّوهم ) كناية عن غاية حقارة الأصنام ، فانّ العرب تقول للشيء المستحقر الذي بلغ في الحقارة إلى أن لا يكون قابلا للذكر وتسميته باسم لا اسم له (٣) : سمّه بما شئت ، يعني أنّه أخسّ من أن يسمّى ويذكّر ، ولكنّك إنّ شئت أن تضع له اسما فافعل ، فإنّه في الحقارة إلى حدّ لا يستحقّ أن يلتفت إليه عاقل (٤) .
__________________
(١) في النسخة : التعجيبي.
(٢) تفسير الرازي ١٩ : ٥٦.
(٣) في تفسير الرازي : الحقارة إلى أن لا يذكر ولا يوضع له اسم ، فعند ذلك يقال :
(٤) تفسير الرازي ١٩ : ٥٦.