والأحكام لامتيازهم بكمال العقل ونزاهة النفس من الراذئل ، وتزيّنهم بالصفات الحميدة والأخلاق الكريمة ، وكانوا ﴿مِنْ أَهْلِ الْقُرى﴾ من الأمصار والرساتيق ، لا البوادي ، ولا الملائكة ، ولا الجنّة (١) ولا النساء ، ومع ذلك كيف يتعجّب هؤلاء المشركون من إرسالك رسولا إليهم.
ثمّ استدلّ سبحانه على رسالة هؤلاء الرجال بتعذيب مكذّيبهم بقوله : ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا﴾ هؤلاء المشركون ﴿فِي الْأَرْضِ﴾ ولم يسافروا إلى البلاد ﴿فَيَنْظُرُوا﴾ بنظر الاعتبار ﴿كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ﴾ الامم المكذّبة ﴿الَّذِينَ﴾ كانوا ﴿مِنْ قَبْلِهِمْ﴾ بتكذيبهم اولئك الرجال المرسلين إليهم ، فانّ آثار نزول عذاب الاستئصال عليهم باقية إلى الآن في محالّهم وأماكنهم ، وفيه تهديد مكذّبي النبي صلىاللهعليهوآله.
ثمّ لمّا كان عمدة الباعت على تكذيب الرسل حبّ الدنيا وزخارفها ، وعظهم الله تعالى ورغّبهم في الآخرة بقوله : ﴿وَلَدارُ الْآخِرَةِ﴾ ونعمها (٢) الباقية ﴿خَيْرٌ﴾ وأفضل ما حسن من الدنيا ونعيمها لو كان فيها حسن وفضيلة ، وإنّما هي ﴿لِلَّذِينَ اتَّقَوْا﴾ الشرك والمعاصي ، واحترزوا من مخالفة الله وأحكامه ﴿أَفَلا تَعْقِلُونَ﴾ أيها المشركون الذين تدعون لأنفسكم العقل هذه الافضلية مع كمال وضوحها ، ولا تدركون هذه الخيرية مع بداهتها ، لأنّ العقل يحكم بالبديهة بأنّ الباقي وإن كان فى غاية القلّة خير من الزائل وإن كان في غاية الكثرة ، مع أنّ نعم الآخرة أكثر وأهنأ من نعم الدنيا.
ثمّ لمّا هدّد سبحانه المشركين بالعذاب بقوله : ﴿أَفَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللهِ﴾ وقوله : ﴿أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ﴾ وقد كانوا في أرغد عيش وطول عمر ، نبّه سبحانه على أنّ الحكمة مقتضية لتأخيره عنهم ، كما أخّر نزوله على الامم السابقة المهلكة.
﴿حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ﴾ الذين كانوا قبلك من إيمان قومهم ، وانقطع رجاؤهم من قبولهم التوحيد ودخولهم في دين الحقّ ، وقومهم قد تجرأوا في تكذيبهم ﴿وَظَنُّوا﴾ وتوهّموا ﴿أَنَّهُمْ﴾ فيما أخبروا به على لسان رسلهم من نصر لرسلهم وهلاك أنفسهم العذاب الاستئصال ﴿قَدْ كُذِبُوا﴾ واجترأوا بما هو خلاف الواقع ﴿جاءَهُمْ﴾ ونزل على اولئك الرسل ﴿نَصْرُنا﴾ وإعانتنا لهم بنزول العذاب على قومهم ﴿فَنُجِّيَ﴾ من ذلك العذاب ﴿مَنْ نَشاءُ﴾ نجاته وهم الرسل وأتباعهم المؤمنون بهم ، وهلك به غيرهم ممّن خالفهم وكذّبهم ﴿وَلا يُرَدُّ﴾ ولا يصرف ﴿بَأْسُنا﴾ وعذابنا ﴿عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ﴾ والعاصين لنا بانكار التوحيد وتكذيب الرسل.
واعلم أنّ تفسير الآية المباركة بالوجه الذي ذكرنا بناء على القراءة المعروفة - وهي قراءة كذّبوا بالتخفيف - سليم من الاشكال. وأمّا سائر التفسيرات التي ذكرها المفسّرون - وإن كان بعضها منقولا
__________________
(١) في النسخة : الأجنة.
(٢) في النسخة : ونعيمها.