حتى بطون الأودية ورؤوس الجبال مدة سبع سنين ، وهو يأمرهم أن يدعوه في سنبله ، وكان ياخذ منهم الخمس ويجعله في الأهراء (١) ، وكذا ما زرعه السلطان وأعوانه وخدمه ، ثمّ أقبلت السنون المجدبة ، فحبس الله عنهم القطر من السماء ، والنبات من الأرض حتى لم ينبت لهم في جميع أراضي مصر حبّة واحدة (٢) من المأكولات.
قيل : إن زليخا بعد وفاة قطفير زوجها انقطعت عن كلّ شيء وسكنت خرابة سنين كثيرة ، وكانت لها جواهر كثيرة [ جمعت في زمان زوجها ] فاذا سمعت من أحد خبر يوسف أو اسمه ، بذلت منها حبا له حتّى نفدت ، وكانت تبكي شوقا إلى يوسف.
ثمّ لمّا اشتدّ حالها لشدائد الخلوة في الخرابة اتخذت بيتا من القصب على الطريق التي هي ممرّ يوسف ، وكان يوسف يركب في بعض الأحيان وله فرس لا يصهل إلّا وقت ركوبه ، ويسمع صهيله على ميلين ، فيعلم الناس بركوبه ، فتقف زليخا على قارعة الطريق ، فاذا مرّ بها يوسف تناديه بأعلى صوتها ، فلا يسمع لكثرة اختلاط أصوات الناس ، فأقبلت يوما على صنمها الذي كانت تعبده ، وقالت له : تبا لك ولمن يسجد لك ، أما ترحم كبري وعماي وفقري وضعفي ، فأنا اليوم كافرة بك ومؤمنة بربّ يوسف ، وصارت تذكر الله صباحا ومساء.
فبعد ذلك ركب يوسف يوما ، فلمّا صهل فرسه اجتمع الناس للنظر إلى جماله واحتشامه ، فخرجت زليخا من بيتها ، فلمّا مرّ بها يوسف نادت بأعلى صوتها : سبحان من جعل الملوك بمعصيتهم عبيدا ، وجعل العبيد بطاعتهم ملوكا ، فأمر الله الريح فألقت كلامها في مسامع يوسف ، فأثّر فيه فبكى ، ثمّ التفت فرآها ، فقال لغلامه : اقض حاجة المرأة : فقال : ما حاجتك ؟ قالت : إنّ حاجتي لا يقضيها إلّا يوسف. فذهب بها إلى دار يوسف.
فلمّا رجع يوسف إلى قصره نزع ثياب الملك ، ولبس مدرعة من الشعر ، وجلس في بيت عبادته يذكر الله تعالى ، فذكر العجوز ودعا بالغلام وقال له : ما فعلت بالعجوز ؟ فقال : إنّها زعمت أنّ حاجتها لا يقضيها غيرك. فقال : إئتني بها ، فأحضرها فسلمت عليه وهي منكّسة الرأس ، فرقّ لها ، وردّ عليهاالسلام ، وقال لها : يا عجوز ، إنّي سمعت منك كلاما فأعيديه. فقالت : إنّي قلت : سبحان من جعل الملوك بمعصيتهم عبيدا ، وجعل العبيد بطاعتهم ملوكا.
في تزويج يوسف بزليخا
فقال : نعم ما قلت ، فما حاجتك ؟ قالت : يا يوسف ، ما أسرع ما نسيتني ! فقال : من
__________________
(١) الأهراء : جمع هري ، وهو بيت كبير ضخم يجمع فيه طعام السلطان.
(٢) تفسير روح البيان ٤ : ٢٨٣.