ثمّ كأنّه قيل : ماذا أمره في العبادة ؟ فقال : ﴿أَمَرَ﴾ أيها الناس بتوسط الأنبياء ﴿أَلَّا تَعْبُدُوا﴾ شيئا ﴿إِلَّا إِيَّاهُ﴾ وأن لا تضرّعوا ولا تخضعوا إلّا له ﴿ذلِكَ﴾ التوحيد والتخصيص للعبادة به ، هو ﴿الدِّينُ الْقَيِّمُ﴾ والسنّة المرضية الثابتة من أول الخلق إلى آخر الأبد ﴿وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ ذلك ، فيتبعون بجهلهم هوى أنفسهم.
﴿يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَأَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ
الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (٤١)﴾
ثمّ أنّه عليهالسلام بعد دعوتهما إلى التوحيد وإقامة البرهان عليه ، عبّر رؤياهما بقوله : ﴿يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا﴾ الساقي الذي هو ﴿أَحَدُكُما﴾ فيتخلّص من السجن ﴿فَيَسْقِي﴾ عن قريب ﴿رَبَّهُ﴾ ومالكه الذي هو الملك ﴿خَمْراً﴾ كما كان يسقيه من قبل.
روي أنّه قال للساقي : ما أحسن ما رأيت ! أمّا الكرمة فهو الملك ، وأمّا حسنها فهو حسن حالك عنده ، وأمّا الأغصان الثلاثة فثلاثة أيام تمضي عليك في السجن ، ثمّ يرسل إليك الملك عند انقضائها ، فيردّك إلى عملك ، فتصير كما كنت بل أحسن (١) .
﴿وَأَمَّا﴾ الخبّاز الذي هو ﴿الْآخَرُ﴾ منكما فيخرج من السجن ﴿فَيُصْلَبُ﴾ ويبقى مصلوبا ﴿فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ﴾ مخّ ﴿رَأْسِهِ﴾
روي أنّه قال للخبّاز : بئسما رأيت ، أمّا خروجك من المطبخ فخروجك من عملك ، وأما السلال الثلاث فثلاثة أيام ثمرّ عليك ، ثمّ يوجّه إليك الملك عند انقضائهنّ فيصلبك ، فتأكل الطير من رأسك (٢) .
عن القمي رحمهالله : ولم يكن رأى ذلك وكذب ، فقال له يوسف : أنت يقتلك الملك ويصلبك وتأكل الطير من دماغك ، فجحد الرجل ، وقال : إني لم أر ذلك ، فقال يوسف عليهالسلام : ﴿قُضِيَ﴾ واتمّ واحكم ﴿الْأَمْرُ﴾(٣) والتأويل ﴿الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ﴾ وتسألان عنه ، فكان كما عبّر يوسف حيث أخرج الملك صاحب الشراب فردّه إلى مكانه وخلع عليه وأحسن إليه لمّا تبيّن عنده حاله في الأمانة ، وأخرج الخبّاز ونزع ثيابه وجلده بالسياط حتى مات لمّا ظهر عنده خيانته ، وصلبه على قارعة الطريق ، وأقبلت طيور سود فأكلت من رأسه ، وهو أول من استعمل الصلب ، ثمّ استعمله فرعون موسى ، أقول : بناء على أنه لم يكن هو ، بل كان من أجداده.
__________________
(١ و٢) تفسير روح البيان ٤ : ٢٦٢.
(٣) تفسير القمي ١ : ٣٤٤ ، تفسير الصافي ٣ : ٢١.