أَكْثَرَ النَّاسِ﴾ المبعوث إليهم الرسل ﴿لا يَشْكُرُونَ﴾ الله على هذه الرحمة العظيمة والفضل الجسيم ، فلا يقدمون بقبوله والالتزام به ، بل يعرضون عنه ويشركون به الأصنام ، ويعبدون الأوثان.
﴿يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (٣٩)﴾
ثمّ أخذ عليهالسلام في الاستدلال على صحّة التوحيد وبطلان الشرك بعد مخاطبتهما بما يوجب تهييج المودة وجلب التوجّه بقوله : ﴿يا صاحِبَيِ السِّجْنِ﴾ ومشاركي في الضّيق والضّنك ، أو يا ملازمي السجن ﴿أَ أَرْبابٌ﴾ وآلهة كثيرة ﴿مُتَفَرِّقُونَ﴾ في أطراف العالم على ما تعتقدون ، أو متفاوتون في الجنس كالذهب والفضّة والخشب والحجارة ، وفي المقدار كالطول والعرض والقصر والصغر والكبر ﴿خَيْرٌ﴾ لنظام العالم وتربية الموجودات على الوجه الأتمّ ﴿أَمِ اللهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ﴾ لجميع الأشياء بحيث يكون كلّ شيء تحت قدرته ، ولا يمنعه شيء عن إنفاذ إرادته ، فمن البديهي أنّ الواحد القادر الذي يتمّ به النظام خير من الكثير العاجز الذي يختلّ به النظام.
وقيل : إنّ المراد أنّ الواحد القادر الذي لا يقهره شيء وهو يقهر كلّ شيء خير ، أم الأصنام المتفرقة بالشكل ، المصنوعة بيد الغير ، المقهورة تحت قدرة الخلق (١) ؟ أو المراد : أن الإله الواحد الذي نعلم أنّه المنعم علينا والمستحقّ لعبادتنا خير ، أم الآلهة الكثيرة التي لا نعلم أيّها خالقنا ورازقنا والمنعم علينا حتى نعبده.
﴿ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللهُ بِها مِنْ
سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلكِنَّ أَكْثَرَ
النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (٤٠)﴾
ثمّ استدلّ ثانيا مخاطبا لهما ، ولمن كان على دينهما بقوله : ﴿ما تَعْبُدُونَ﴾ إذ تعبدون ﴿مِنْ دُونِهِ﴾ وممّا سواه شيئا ﴿إِلَّا أَسْماءً﴾ صرفه لا مسمّيات لها ، ولا واقعية لمعانيها ، ولا وجود لمفاهيمها في الخارج ، وإنما ﴿سَمَّيْتُمُوها﴾ وجعلتموها ﴿أَنْتُمْ وَآباؤُكُمْ﴾ أسماء لهذه الأجسام بمحض جهلكم وضلالكم ، وكانت تسميتها بالآلهة وعبادتها من قبل أنفسكم ﴿ما أَنْزَلَ اللهُ بِها﴾ شيئا ﴿مِنْ سُلْطانٍ﴾ وبرهان يوجب جوازها ﴿إِنِ الْحُكْمُ﴾ وما الأمر في جواز العبادة المتفرّعة على التسمية ﴿إِلَّا لِلَّهِ﴾ وحده لأنّه المستحقّ لها بالذات ، لكونه الواجب الموجد لجميع الأشياء ، المالك لأمرها.
__________________
(١) تفسير الرازي ١٨ : ١٤٠.