وَاتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ مِنْ
شَيْءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللهِ عَلَيْنا وَعَلَى النَّاسِ وَلكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا
يَشْكُرُونَ (٣٧) و (٣٨)﴾
ثمّ أنّه أراد دعوتهما إلى التوحيد الذي هو أولى بهما ممّا سألاه قبل إسعاف حاجتهما على ما هو وظيفة النبوه وطريقة الأنبياء ، فبدأ باظهار معجزة دالة على صدقه في الدعوة ، وهي الإخبار بالمغيبات (١) ، حيث ﴿قالَ لا يَأْتِيكُما﴾ من الخارج ﴿طَعامٌ﴾ كان مأكولا أو مشروبا ﴿تُرْزَقانِهِ﴾ وتطعمانه في مقامكما وقتا من الأوقات ﴿إِلَّا نَبَّأْتُكُما﴾ وأخبرتكما ﴿بِتَأْوِيلِهِ﴾ وبجميع خصوصياته من جنسه ومقداره وكيفية طعمه ولونه وخواصه ﴿قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما﴾ ويحضر عندكما. قيل : إنّه كان يخبرهما بما يؤتى إليهما في السجن ويصفه لهما قبل أن يأتيهما ، ويقول : اليوم يأتيكما طعام من صفته كيت وكيت ، وكم تأكلان منه ، فيجدان كما أخبرهما (٢) .
وقيل : إنّما قال ذلك لاعلامهما بعدم اختصاص علمه بتعبيير الرؤيا ، بل هو عالم بالمغيبات (٣) .
وقيل : إنّ الملك كان إذا أراد قتل أحد أدخل في طعامه السّمّ وأرسله إليه ، ولذا قال ذلك ، وأراد من قوله : ﴿نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ﴾ أخبرتكما بأنّه مسموم أم لا. فتعجبوا من ذلك ، وقالوا : من أين لك العلم الذي يكون للعرّاف والكهنة ؟ قال : ﴿ذلِكُما﴾ الاخبار بالتأويل الذي من العلم بالمغيبات ﴿مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي﴾ بطريق الإلهام والوحي ، وليس من التكهّن والتنجيم (٤) .
ثمّ بيّن علّة تفضّل الله عليه بهذه الفضيلة بقوله : ﴿إِنِّي تَرَكْتُ﴾ ورفضت ﴿مِلَّةَ قَوْمٍ﴾ ودين جمع ﴿لا يُؤْمِنُونَ بِاللهِ﴾ ولا يوحّدونه ، بل يعبدون الأصنام ويشركون به ﴿وَهُمْ﴾ مع ذلك ﴿بِالْآخِرَةِ﴾ ودار الجزاء والجنّة والنار ﴿هُمْ كافِرُونَ﴾ ومنكرون ﴿وَاتَّبَعْتُ﴾ من بين الملل التي عليها الناس ﴿مِلَّةَ آبائِي﴾ الكرام ، أعني ﴿إِبْراهِيمَ وَإِسْحاقَ وَيَعْقُوبَ﴾ وفيه تعريف نفسه بشرف النسب الموجب لازدياد الرغبة في قبول قوله والاقتداء به.
ثمّ بالغ في إظهار بطلان الشرك والتبرئ منه بقوله : ﴿ما كانَ﴾ يصحّ ﴿لَنا﴾ معاشر الأنبياء ﴿أَنْ نُشْرِكَ بِاللهِ﴾ المتفرّد بالالوهية ﴿مِنْ شَيْءٍ﴾ من الأشياء ملك أو جنّ أو إنس فضلا عن الجماد الذي لا روح له ولا شعور ﴿ذلِكَ﴾ التوحيد ﴿مِنْ فَضْلِ اللهِ﴾ ورحمته ﴿عَلَيْنا﴾ حيث أوحاه إلينا لقوة نفوسنا ، ووفور عقلنا ، وكمال بصيرتنا ﴿وَعَلَى﴾ سائر ﴿النَّاسِ﴾ ببعثنا إليهم لهدايتهم إليه ﴿وَلكِنَ
__________________
(١) تفسير روح البيان ٤ : ٢٥٩.
(٢) تفسير روح البيان ٤ : ٢٦٠.
(٣) تفسير الرازي ١٨ : ١٣٦.
(٤) في النسخة : والتنجم.