والحلل جبّة صوف تأكل جلدك ، ولأقيّدنك بقيد من حديد يأكل رجليك.
ثمّ نزعت ما كان عليه من اللباس ، والبسته جبّة صوف ، وقيّدته بقيد من حديد ، فلمّا دنا من باب السجن نكّس رأسه ، فلمّا دخل قال : بسم الله (١) ﴿وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ﴾ وعبدان من عبيد الملك الأكبر : أحدهما صاحب طعامه ، والآخر صاحب شرابه.
قيل : إنّ جماعة من أهل مصر وعدوهما (٢) مالا كثيرا ليسمّا الملك في طعامه وشرابه فأجاباهم إلى ذلك ، ثمّ أنّ الساقي نكل عن ذلك ، ومضى عليه الخبّاز فسمّ الخبز ، فلمّا حضر الطعام قال الساقي : لا تأكل أيّها الملك من الخبز فإنّه مسموم. وقال الخباز : لا تشرب أيّها الملك من الشراب فانّه مسموم ، فقال الملك للساقي : اشربه فشربه فلم يضرّه ، وقال للخباز : كله فأبى ، فجرّبه بدابّة فهلكت ، فأمر الملك بحبسهما ، فاتفق أن ادخلا في السجن مع يوسف (٣) .
فلمّا دخل يوسف في السجن جلس في ناحية منه ، وأحاط به أهل السجن وهو يبكي ، فأتاه جبرئيل فقال له عليهالسلام : ممّ بكاؤك وأنت اخترت السجن لنفسك ؟ فقال : إنّما بكائي لانّه ليس في السجن مكان طاهر [ أصلي فيه ] فقال له جبرئيل : صلّ حيث شئت ، فإنّ الله قد طهّر خارج السجن وداخله أربعين ذراعا لأجلك ، فكان يصلّي حيث أراد ، وكان يصلّي ليلة الجمعة عند باب السجن ، فطلبت زليخا السجّان ، وقالت له : ارفع الغلّ عن يوسف ، وألبسه حلل الحرير والاستبرق ، وارفق به غاية الرّفق.
ثمّ أثّر في قلبها الفراق ، واحترقت بنار الاشتياق ، فجاءت ليلة مع دايتها (٤) إلى السجن وطالعت جمال يوسف من بعيد : ثمّ كانت تنظر إليه من روزنة (٥) القصر إلى السجن ، وكان يوسف على عادته مشغولا بالعبادة ، ويسلّي أهل السجن ، ويحسن إليهم بكلّ ما قدر ، فقالوا ، بارك الله عليك ، ما أحسن وجهك ! وما أحسن خلقك ! لقد بورك لنا في جوارك. فمن أنت يا فتى ؟ فقال عليهالسلام : أنا يوسف ابن صفي الله يعقوب بن ذبيح الله إسحاق بن خليل الله إبراهيم. فقال له السجان : لو استطعت لخلّيت سبيلك ، ولكن احسن جوارك ، فكن في أيّ بيت شئت (٦) .
وروي أنّ الفتيين قالا له : إنّا لنحبّك من حين رأيناك. فقال : أنشد كما بالله أن لا تحبّاني ، فو الله ما أحبّني أحد قطّ إلّا دخل من حبّه عليّ بلاء ، لقد أحبّتني عمّتي فدخل عليّ من حبّها بلاء ، ثمّ أحبّني
__________________
(١) تفسير روح البيان ٤ : ٢٥٤.
(٢) في تفسير أبي السعود وروح البيان : ضمنوا لهما.
(٣) تفسير أبي السعود ٤ : ٢٧٥ ، تفسير روح البيان ٤ : ٢٥٧.
(٤) الداية : المرضعة الأجنبية ، والحاضنة ، والقابلة.
(٥) الروزنة : الكوّة.
(٦) تفسير روح البيان ٤ : ٢٥٥ - ٢٥٨.