وأتت كلّ واحدة منهنّ سكّينا ، ثمّ قالت ليوسف : اخرج عليهنّ : فلمّا رأينه أكبرنه وقطّعن أيديهن وقلن ما قلن. فقالت لهنّ هذا ﴿الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ﴾ يعني في حبّه ، وخرجن النسوة من عندها فأرسلت كلّ واحدة منهنّ إلى يوسف سرّا من صواحبها تسأله الزيارة ، فأبى عليهنّ ، وقال : ﴿إِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ﴾ فصرف الله عنه كيدهنّ » (١) .
ثمّ قيل : لمّا ظهر للعزيز براءة يوسف ، لم يتعرّض له ، وخصّه بخدمة نفسه ، فاحتالت زليخا بعد ذلك بحيل تضطرّ يوسف إلى موافقتها ، فلم توثّر فيه ، فلمّا أيست منه قالت لزوجها : إنّ هذا العبد فضحني في الناس ، ولا أقدر على إظهار عذري ، فإما أن تأذن لي في الخروج للاعتذار ، أو تحبسه كما حبستني (٢) .
وقيل : إنّ النسوة كنّ يدعون يوسف إلى أنفسهن ، فلمّا يئسن منه جئن إلى زليخا ، وقلن : نرى أن تحبسه أياما قلائل ، لعلّه بعد ابتلائه بذلّ السجن وتعبه انقاد لك ، فقالت زليخا للعزيز : أرى أنّ الأصلح أن تحبسه لينقطع عن الناس ذكر هذا الحديث (٣) ، أو يحسبون أنّه المجرم ، وكان العزيز مطيعا لها ، فاغترّ بقولها ﴿ثُمَّ بَدا لَهُمْ﴾ وتغيّر رأيهم عمّا كان عليه من عدم التعرّض له ﴿مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ﴾ والشواهد على براءة يوسف ﴿لَيَسْجُنُنَّهُ﴾ وليحبسنّه ﴿حَتَّى حِينٍ﴾ انقطاع قالة الناس بنظر العزيز ، وإلى زمان انقياد يوسف أو حسبان الناس أنّه المجرم بنظر زليخا.
عن الباقر عليهالسلام : « الآيات : شهادة الصبي ، والقميص المخرّق من دبر ، واستباقهما الباب حتّى سمع مجاذبتها إياه على الباب ، فلمّا عصاها لم تزل مولعة (٤) بزوجها حتى حبسه » (٥) .
قيل : كان للعزيز ثلاثة سجون : سجن العذاب ، وسجن القتل ، وسجن العافية ، فأمّا سجن العذاب فهو محفور في الأرض وفيه الحيّات والعقارب ، وهو مظلم لا يعرف فيه الليل من النهار ، وأمّا سجن القتل فهو محفور في الأرض أربعين ذراعا ، وكان الملك إذا سخط على أحد يلقيه فيه على امّ رأسه فلا يصل إلى قعره إلّا وقد هلك ، وأمّا سجن العافيه فإنّه كان على وجه الأض إلى جانب قصره ، فإذا غضب على أحد من حواشيه حبسه في ذلك السجن ، فلمّا أرادت زليخا أن يسجن يوسف أرسلت إلى سجّان سجن العافية ، وأمرته أن يصلح فيه مكانا متفرّدا ليوسف ، ثمّ قالت ليوسف : لقد أعييتني ، وانقطعت فيك حيلتي ، فلأسلّمنّك إلى المعذّبين يعذّبونك كما عذّبتني ، ولألبسنك بعد الحليّ
__________________
(١) علل الشرائع : ٤٨ / ١ ، تفسير الصافي ٣ : ١٨.
(٢) تفسير الرازي ١٨ : ١٣٢.
(٣) تفسير روح البيان ٤ : ٢٥٤.
(٤) ولع به : اغري به ، في تفسير القمي : ملحة.
(٥) تفسير القمي ١ : ٢٤٤ ، تفسير الصافي ٣ : ١٩.