الكنعاني ﴿الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ﴾ وعذلتنني على حبّه وافتتاني به ، ولو رأيتنه قبل المجلس أو تصوّرتم صورته لما كنتم تلومونني على حبّه ، بل ظهر أنكنّ أحقّ باللوم لأنكنّ بنظرة واحدة إليه ظهر فيكن ما لم يظهر في المدة المديدة.
قيل : أنّما أشارت زليخا إليه بذلك الذي للبعيد لكونها بعد انصرافه من المجلس (١) ، أو لاظهار رفعة منزلته في الحسن.
ثمّ إنها لمّا ظهر عذرها عند النسوة ، كشفت السرّ عمّا كانت تستره ، وأعلنت بحقيقة الحال بقولها: ﴿وَلَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ﴾ وطلبت منه أن يمكّننى من قربه ﴿فَاسْتَعْصَمَ﴾ بالله واستجار إليه من إجابتي ، ﴿وَ﴾ والله ﴿لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ﴾ ولم يجب ما أسأله من المواقعة ﴿لَيُسْجَنَنَ﴾ البتة ﴿وَلَيَكُوناً﴾ لا محالة ﴿مِنَ﴾ جملة ﴿الصَّاغِرِينَ﴾ والمهانين في الناس ، وإنما أوعدته بالصّغار والذلّ لعلمها بأن له تأثيرا عظيما في قلب من كان عزيز النفس رفيع المقام عظيم الخطر كيوسف ، فتضيق عليه الحيل ، وإنّما قالت ذلك بين النساء ليعلم يوسف أنّها ليست من أمرها على خيفة وخفية.
قيل : إنّ النسوة لمّا سمعن منها هذا التهديد اجتمعن على يوسف ، وقلن : إنّا نرى صلاحك في موافقتها ، وإلّا توقعك في السجن ، وتبتليك بالذلّ والصّغار (٢) .
﴿قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ
إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ * فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ
السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (٣٤) ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ *
وَدَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَقالَ الْآخَرُ
إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ
الْمُحْسِنِينَ (٣٣) و (٣٦)﴾
ثمّ لمّا رأى يوسف عليهالسلام موجبات الرغبة في إجابة مسؤولها كثيرة من حسنها وكثرة أموالها وموافقة النسوة معها ، وتوقّع شرّها كالقتل والسجن ونظائرهما ، التجأ إلى الله واعتصم به بقوله : ﴿قالَ رَبِّ السِّجْنُ﴾ الذي تهدّدني به زليخا ، وتخوّفني به النسوة ﴿أَحَبُّ إِلَيَ﴾ وأولى بالتحمّل لديّ ﴿مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ﴾ من الزنا والفحش لقلّة المحاذير الدنيوية بالنسبة إلى المحاذير الاخروية ﴿وَإِلَّا تَصْرِفْ﴾ ولا تدفع ﴿عَنِّي كَيْدَهُنَ﴾ ومكرهنّ بي في إلقائي في الخطر وبعثي إلى خلاف رضاك
__________________
(١ و٢) تفسير الرازي ١٨ : ١٣٠.