أو المراد : كيف أطردهم ، مع أنّهم أعظم الناس قدرا ، وأعلاهم منزلة ؟ لأنّهم ملاقو ربّهم ، والفائزون بقرب مليكهم ، بسبب إيمانهم وحسن عملهم. ثمّ أنتم ترون أنفسكم أعقل وأعلم منّي ومنهم ﴿وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ﴾ بالواقعيّات ، وما وراء المحسوسات ، وعواقب الامور ، وتغترّن بالظّواهر لقصور نظركم ، وعدم تدبّركم ، ولذا تدّعون أنهم أرذل النّاس وتسألون طردهم.
﴿وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ * وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي
خَزائِنُ اللهِ وَلا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي
أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ
الظَّالِمِينَ (٣٠) و (٣١)﴾
ثمّ بالغ في الاعتذار عن عدم طردهم بقوله : ﴿وَيا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي﴾ وينجيني ﴿مَنْ﴾ عذاب ﴿اللهِ﴾ ويدفع عنّي عقابه ﴿إِنْ طَرَدْتُهُمْ﴾ وأبعدتهم من حولي ، مع أنّي مأمور بتقريبهم وإكرامهم ؟ ﴿أَ فَلا تَذَكَّرُونَ﴾ أنّ هذا أبلغ الإعذار في ترك طردهم ؟
ثمّ لمّا كان في قوله : ﴿لا أَسْئَلُكُمْ﴾ إيهام بغناه المطلق ، وفي دعوى رسالته إيهام بكونه ملكا في اعتقاد القائلين بأنّه بشر ، وفي قوله : إني ﴿أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ﴾ إيهام بكونه عالما بالبواطن والمغيّبات ، وفي قوله : ﴿ما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ إيهام بكونه عالما بما في أنفسهم من الخلوص في الإيمان ، وكلّ ذلك كان موردا لتكذيبهم ؛ لغاية استبعاده في نظرهم ، دفع جميع التوهّمات بقوله : ﴿وَلا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللهِ﴾ وبيدي مفاتيح كنوزه ، ولي الغنى المطلق ، حتّى تجحدوا ذلك وتقولوا : ﴿ما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ﴾ فإنّ النبوّة لا تنال بالمال والجاه ﴿وَلا﴾ أقول : إنّي ﴿أَعْلَمُ الْغَيْبَ﴾ حتّى تستبعدوه منّي ﴿وَلا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ﴾ من الملائكة ، حتّى تكذّبوني وتقولوا : ﴿ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ﴾ فإنّ البشريّة من مبادئ النبوّة لا من موانعها ﴿وَلا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ﴾ وتسترذلوهم في أنظاركم : ﴿لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللهُ خَيْراً﴾ كما تقولون ذلك في شأنهم ، أو آتاهم جميع الخيرات بخلوص إيمانهم. وإنّما أنظر أنا بظاهر حالهم ومقالهم ، و﴿اللهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ﴾ من الخلوص والنّفاق ﴿إِنِّي إِذاً﴾ والله ﴿لَمِنَ الظَّالِمِينَ﴾ على نفسي بادّعاء ما ليس لي ، وعلى المؤمنين بطردهم وتحقيرهم.
﴿قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ
الصَّادِقِينَ * قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ إِنْ شاءَ وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (٣٢) و (٣٣)﴾