فلمّا ردّ نوح شبههم ، وألزمهم بالحجج والبيّنات الواضحة ، ضاقت عليهم الحيل و﴿قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا﴾ وخاصمتنا في إثبات نبوّتك ﴿فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا﴾ وأطلته حتّى مللتنا ﴿فَأْتِنا بِما تَعِدُنا﴾ من العذاب العاجل ، عى ترك إيماننا بك ، وبما ادّعيت من التّوحيد ﴿إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ﴾ في دعوى نبوّتك ووعيدك ، فإنّ مواعظك ومناظرتك لا تؤثّر فينا ﴿قالَ﴾ نوح : أنا لا أقدر على إتيان العذاب ، بل ﴿إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللهُ﴾ القادر على كلّ شيء ﴿إِنْ شاءَ﴾ إتيانه عاجلا أو آجلا ﴿وَما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ﴾ له ومانعيه من تعذيبكم بالهرب والدّفاع.
﴿وَلا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ
رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (٣٤)﴾
ثمّ نبّههم بكونه ناصحا لهم لا مجادلا ، وأظهر يأسه عن إيمانهم متأسّفا عليهم بقوله : ﴿وَلا يَنْفَعُكُمْ﴾ ولا يؤثّر فيكم ﴿نُصْحِي﴾ وموعظتي ﴿إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ﴾ وأرشدكم بما فيه خيركم ، وأزجركم عمّا فيه ضرّكم وشرّكم ، لا تسمعوا قولي ، ولا تعتنوا إلى نصحى ﴿إِنْ كانَ اللهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ﴾ ويضلّكم عن صراط الحقّ لخبث طينتكم وسوء اختياركم وإعمالكم له ذلك ، إذ ﴿هُوَ رَبُّكُمْ﴾ ومالك أمركم ، العالم بطينتكم وسوء أخلاقكم وأعمالكم ، حيث إنّه خلقكم أوّلا ، وربّاكم في مدّة عمركم ﴿وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ﴾ آخرا ؛ فيجازيكم بما تستحقّون.
عن الرضا عليهالسلام : « يعني : الأمر إلى الله يهدي من يشاء » (١) .
﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (٣٥)﴾
ثمّ أنّه تعالى بعد حكاية محاجّة نوح مع قومه - التي [ هي ] من الأخبار الغيبيّة بالنّسبة إلى النبيّ الامّي ، والدّلائل الواضحة على صدق القرآن - وبّخ المشركين بنسبة الافتراء إليه بقوله : ﴿أَمْ يَقُولُونَ﴾ هؤلاء المشركون في شأن القرآن العظيم : إنّ محمّدا ﴿افْتَراهُ﴾ واختلقه من عند نفسه ﴿قُلْ﴾ يا محمّد لهؤلاء المعاندين المصرّين على الكفر واللّجاج : ﴿إِنِ افْتَرَيْتُهُ﴾ كما تقولون ﴿فَعَلَيَّ إِجْرامِي﴾ وعقوبة ذنبي ، وإن كنت صادقا في نسبة القرآن إلى ربّي ؛ وأنتم تكذّبوني ، فعليكم عقاب ذنبكم ووبال جرمكم ﴿وَأَنَا بَرِيءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ﴾ من إسناد الافتراء إليّ ، فلا وجه لمعاداتكم لي.
وقيل : هذه الآية تتمّة قول نوح ، والضّمير المنصوب في ﴿افْتَرَيْتُهُ﴾ راجع إلى الوحي الذي ادّعاه (٢) .
__________________
(١) تفسير العياشي ٢ : ٣٠٤ / ٢٠٠٢ ، وفيه : يهدي ويضلّ ، تفسير الصافي ٢ : ٤٤٢.
(٢) تفسير الرازي ١٧ / ٢٢٠.