مِنْ فَضْلٍ﴾ ومزيّة من حيث العقل والشّرف والمال ، توجب اختصاصكم بالنبوّة ، والقرب من الله ﴿بَلْ نَظُنُّكُمْ﴾ جميعا ﴿كاذِبِينَ﴾ في دعوى التّوحيد والنبوّة.
﴿قالَ﴾ لهم نوح بلطف ولين : ﴿يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ﴾ وأخبروني عن عقل وإنصاف ﴿إِنْ كُنْتُ﴾ في دعوى نبوّتي ﴿عَلى بَيِّنَةٍ﴾ عظيمة ، وحجّة واضحة من كمال العلم والمعرفة ، والمعجزة الباهرة ﴿مِنْ رَبِّي﴾ ومليكي الذي أرسلني إليكم ﴿وَآتانِي رَحْمَةً﴾ عظيمة ، ونعمة جسيمة ﴿مِنْ عِنْدِهِ﴾ وبلطفه وقدرته ، من النبوّة والمعجزة ﴿فَعُمِّيَتْ﴾ واشتبهت حقيقة الأمر ﴿عَلَيْكُمْ﴾ لسوء أخلاقكم ، وتقولون إنّه لم تظهر عندكم نبوّتي ﴿أَ نُلْزِمُكُمُوها﴾ ونجبركم على قبولها والاهتداء بها ﴿وَأَنْتُمْ لَها كارِهُونَ﴾ وعنها معرضون ، لعدم إقبال قلوبكم إليها ، وعدم تأمّلكم فيها.
وحاصل الجواب : أخبروني إن كانت لي حجّة ظاهرة ، وأنتم لا تسلّمون لها لخفائها عنكم ، بسبب حسدكم وعنادكم ، هل نقدر على إلزامكم بقبولها ، مع عدم نظركم إليها ، وعدم تأمّلكم فيها ، وإعراضكم عنها ؟ كلا ، لا نقدر على ذلك. وفيه إظهار غاية تمرّدهم ، واليأس عن إيمانهم.
وقيل : إنّ المقصود صرفهم عن الإعراض ، وحثّهم على التدبّر في حججه ومعجزاته (١) .
﴿وَيا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللهِ وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ
آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَلكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (٢٩)﴾
ثمّ لمّا كان من موجبات الإعراض أو توهّم الكذب توهّمهم طمعه في أموالهم ، أعلمهم ببراءته عن الطّمع في أموالهم بقوله : ﴿وَيا قَوْمِ﴾ إن كان سبب إعراضكم عنّي ، وتكذيبكم قولي توهّم طمعي في أموالكم ، فاعلموا أنّي مأمور من قبل ربّي بتبليغ دينه ، ولذا ﴿لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مالاً﴾ وإن كان يسيرا ؛ لأنّ عملي ليس لكم حتّى استحقّ عليكم أجره ﴿إِنْ أَجرِيَ﴾ وما جزاء عملي على أحد ﴿إِلَّا عَلَى اللهِ﴾ لأنّي عامل له ، فلا تحرموا أنفسكم عن السّعادة في الدّارين ، باحتمال طمعي في أموالكم ، وتضرّركم بسبب قبول قولي والإيمان بي ، وأمّا اعتراضكم بأن أتباعي الفقراء وأداني النّاس ، فلا وقع له ، لأنّي رسول الله إلى النّاس ، وإنّما غرضي هدايتهم ، ولذا لا يتفاوت في نظري كون المهتدي غنيا أو فقيرا ، شريفا أو وضيعا ﴿وَما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ بالله ووحدانيّته من مجلسي ومن حولي ، وإن كانوا أفقر خلق الله وأرذلهم ، حيث ﴿إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ﴾ يوم القيامة ، فيشكون إليه طاردهم ويخاصمونه.
__________________
(١) تفسير أبي السعود ٤ : ٢٠١.