وإن لم يكن هناك قولا باللّسان ، ولذلك نظائر منها قوله تعالى : ﴿فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ﴾(١) ، ومنها قوله تعالى : ﴿إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ﴾(٢) فهذا النوع من المجاز والاستعارة مشهورة في الكلام ، فوجب حمل الكلام عليه (٣) .
وقال بعض آخر من العامّة في توجيه الآية : إنّه من باب التّمثيل والتخييل ، نزّل تمكينهم من العلم بربوبيّته بنصب الدّلائل الآفاقيّة والأنفسيّة ، وخلق الاستعداد فيهم منزلة الإشهاد ، وتمكينهم من معرفتها والإقرار بها منزلة الاعتراف ، فلم يكن هناك أخذ وإشهاد وسؤال وجواب ، وباب التّمثيل باب واسع في القرآن والحديث وكلام البلغاء ، قال الله تعالى : ﴿فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ﴾(٤) .
وقال الفيض رحمهالله في ( الصافي ) : إنّ المراد بالإشهاد إقامة الدّلائل والحجج على التّوحيد والرّبوبيّة ، ومن قولهم « بلى شهدنا على أنفسنا » أنّه ركّب في عقولهم ما يدعوهم إلى الإقرار بها ، حتّى صار بمنزلة الإشهاد على طريقة التّمثيل ، نظير قوله عزوجل : ﴿إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ﴾ وقوله جلّ وعلا : ﴿فَقالَ لَها وَلِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ﴾(٥) .
أقول : وإن كان يشعر بذلك قول الصادق عليهالسلام : « أنه جعل فيهم إذا سألهم أجابوه » (٦) إلّا أنّ قوله عليهالسلام في رواية القمّي : « فمنهم من أقرّ بلسانه في الذرّ ، ولم يؤمن بقلبه » (٧) كالصّريح في خلافه ، ويمكن القول بخلق ذريّته في صلبه بصور كالذرّ في الصّغر ، ولا مادّة لها ، وكان السؤال بلسان الملك ، والجواب بلسان مناسب لخلقهم ، أو بلسان الحال ؛ لكون عقولهم في ذلك العالم سليمة عن شوب الشّهوات والأهواء. وكانت الحكمة في ذلك كون تذكاره في عالم الدّنيا موجبا لتهييج رغبتهم إلى الإيمان.
ثمّ علّل سبحانه هذا العهد بكراهته تعالى من ﴿أَنْ تَقُولُوا﴾ عند مؤاخذتكم على إنكار الربوبيّة والتّوحيد احتجاجا علينا ﴿يَوْمَ الْقِيامَةِ :﴾ ربّنا ﴿إِنَّا كُنَّا﴾ في الدّنيا ﴿عَنْ هذا﴾ الأمر ﴿غافِلِينَ﴾ وبه جاهلين ، ولا يجوز مؤاخذة الجاهل والغافل ﴿أَوْ تَقُولُوا﴾ يوم القيامة اعتذارا من شرككم : ربّنا ﴿إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا﴾ الأقدمون ﴿مِنْ قَبْلُ﴾ وأخترعوا هذا الدّين وسنّوه في الدّنيا قبل ولادتنا ﴿وَكُنَّا ذُرِّيَّةً﴾ جاهلة ﴿مِنْ بَعْدِهِمْ﴾ لم يكن لنا طريق إلى معرفتك بالربوبيّة والوحدانيّة ، ولم نقدر على الاستدلال
__________________
(١) فصلت : ٤١ / ١١.
(٢) النحل : ١٦ / ٤٠.
(٣) تفسير الرازي ١٥ : ٥٠.
(٤) تفسير روح البيان ٣ : ٢٧٣.
(٥) تفسير الصافي ١ : ٢٥١.
(٦) تقدم آنفا.
(٧) تقدم آنفا.