﴿وَما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَإِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَثَبِّتْ
أَقْدامَنا وَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (١٤٧) فَآتاهُمُ اللهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَحُسْنَ
ثَوابِ الْآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (١٤٨)﴾
ثمّ أنّه تعالى - بعد بيان كمال استقامتهم على الدّين ، وشدّة ثباتهم في الجهاد ونصرة النّبيّين ، وقوّة صبرهم على الشدائد والأهوال - بيّن أنّهم مع ذلك لا همّ لهم ولا مطلوب بعد المغفرة عندهم ، إلّا ازدياد الثّبات والصّبر ، والغلبة على أعداء الحقّ بقوله : ﴿وَما كانَ﴾ في حال من الأحوال أو عند لقاء العدوّ ، واقتحام مضائق الحرب ، والخوض في غمرات الموت ﴿قَوْلَهُمْ﴾ ومسؤولهم شيئا من الأشياء ﴿إِلَّا أَنْ قالُوا﴾ متضرّعين إلى مليكهم اللّطيف بهم ﴿رَبَّنَا﴾ ويا من إليه تربية نفوسنا ، وإصلاح جميع أحوالنا وامورنا ﴿اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا﴾ صغائرها وكبائرها ثمّ بعد التّعميم خصّوا الكبائر بالذّكر لعظمها بقولهم : ﴿وَإِسْرافَنا﴾ وتجاوزنا عن حدودك ﴿فِي أَمْرِنا﴾ وعملنا.
وإنّما أضافوا إلى أنفسهم الإسراف مع كونهم ربّانيّين برآء من التّفريط ، استحقارا لها ، وإسنادا لما أصابهم إلى أعمالهم ، وإنّما قدّموا الدّعاء بالمغفرة لكون النّجاة من سخط الله وعذابه أهمّ المقاصد في نظرهم.
ثمّ الأهمّ ما سألوه بقولهم : ﴿وَثَبِّتْ﴾ بتأييدك لنا ، وتقوية قلوبنا ويقيننا ﴿أَقْدامَنا﴾ على دينك القويم وصراطك المستقيم ، وفي مجاهدة النّفس ، ومدافعة الشّيطان الرّجيم ، ونصرة الأنبياء ، ومنازلة الأعداء ﴿وَانْصُرْنا﴾ بالحجّة والسّيف ﴿عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ﴾ حتّى تعلو كلمتك ، وتتمّ حجّتك.
ففيه دلالة على أنّ المقصد الأعلى عند المؤمنين مغفرة الذّنوب ، والثّبات على الدّين ، ونصرة الحقّ.
وفيه تعريض بالمنهزمين والمرتدّين في احد.
﴿فَآتاهُمُ اللهُ﴾ وأعطاهم بسبب حسن حالهم ، وكمال ضراعتهم ﴿ثَوابَ الدُّنْيا﴾ من انشراح الصّدر ، وقوّة اليقين ، والنّصرة على أعداء الدّين والغنيمة ، وحسن الذّكر بين المؤمنين ﴿وَحُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ﴾ من الجنّة العالية ، والنّعم الباقية ، واللّذّات الدّائمة ، والحور والقصور ، والكرامة والسّرور.
وإنّما خصّ الله سبحانه ثواب الآخرة بالحسن ، للإيذان بفضله ومزيّته على الدّنيا وما فيها ﴿وَاللهُ﴾ تعالى لكونه حسن الصّفات والفعال ﴿يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾ ويرضى عنهم ، ويزيد لهم خير الدّارين.
ففيه دلالة على أنّهم بلغوا - بثباتهم في الدّين ، وخضوعهم لربّ العالمين وعدّ أنفسهم في المذنبين والمسرفين - إلى درجة المقرّبين ، والعباد المرضيّين.