ثمّ أنّه تعالى - بعد بيان علّتين لغلبة المشركين : من امتحان من يظهر الإيمان ، وتمييز الثّابتين عليه من غيرهم ، وإكرام جماعة من المؤمنين بالشّهادة - ذكر العلّة الثالثة بقوله : ﴿وَلِيُمَحِّصَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا﴾ ويطهّرهم من دنس الذّنوب ، بسبب ما أصابهم من المحن والجراحات ، فإنّ الشّدائد الدّنيويّة أدب لهم ، وكفّارة لزلّاتهم.
ثمّ أشار سبحانه إلى العلّة الرابعة بقوله : ﴿وَيَمْحَقَ الْكافِرِينَ﴾ الّذين حاربوا رسوله صلىاللهعليهوآله ويهلكم قليلا قليلا ، بسبب شدّة استحقاقهم لعذابه إن لم يسلموا ، ولم يتوبوا من ظلمهم على النبيّ والمؤمنين ، وأصرّوا على كفرهم وشقاقهم.
قيل : إنّ الله محقهم جميعا ، فظهر من الآية : أنّ الدّولة إذا كانت على المؤمنين ، كان هلاكهم تطهيرا لذنوبهم ، ورفعا لدرجاتهم عند الله.
﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ
الصَّابِرِينَ (١٤٢)﴾
ثمّ لمّا كان الامتحان هو الغاية القصوى من المداولة ، أكّده سبحانه وقرّره بقوله ، مخاطبا للمنهزمين من المؤمنين يوم احد : ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ﴾ قيل : إنّ التّقدير : أعلمتم أنّكم لا تنالون خيرا إلّا بثباتكم في الإيمان ، وصبركم على جهاد أعداء الله ؟ أم توهّمتم ﴿أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ﴾ وتنالوا أعلى درجات الخيرات ، ﴿وَ﴾ الحال أنّه ﴿لَمَّا يَعْلَمِ اللهُ﴾ ولم يميّز ﴿الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ﴾ - في سبيل الله ، بخلوص النّيّة ، والإيمان الرّاسخ - من غيرهم الّذين انهزموا لحبّ الدّنيا وضعف الإيمان ، ﴿وَ﴾ أن ﴿يَعْلَمَ الصَّابِرِينَ﴾ في طاعة الله ، ومشاقّ التّكاليف ، ويميّزهم ممّن يتّبع هواه ، ويستريح إلى لذّاته وشهواته.
وحاصل المراد ، والله العالم : أتتوقّعون أيّها المؤمنين أن تدخلوا الجنّة ، وتفوزوا بنعيمها ، وتصلوا إلى كرامة الله وقربة ، والحال أنّه لم يتحقّق منكم الجهاد في سبيل الله ، والصّبر على الشّدائد في مرضاته.
فإنّه لا يكون ذلك في حكمة الله أبدا ، لاستحالة اجتماع خبث الذّات ، وظلمة القلب - المستتبعين لحبّ الدّنيا ولذّاتها - مع السّعادة الاخرويّة ، والكرامات الأبديّة ، والنّعم الدّائمة ، لغاية التّباين والتّضادّ بينهما.