الجسام ، و﴿فَضَّلَكُمْ﴾ بتلك الخصائص ﴿عَلَى الْعالَمِينَ﴾ فإنّه تعالى لم يعط أحدا من الخلق ما أعطاكم من الآيات الباهرات والمعجزات القاهرات ، لا والله لا يجوز لي الابتغاء ولا لكم الاشتراك به.
ثمّ ذكّرهم أعظم نعم الله بقوله : ﴿وَإِذْ أَنْجَيْناكُمْ﴾ وخلّصناكم بقدرة الله ورحمته ﴿مِنْ﴾ أسركم في أيدي ﴿آلِ فِرْعَوْنَ﴾ وقومه من القبط ، فإنّهم كانوا ﴿يَسُومُونَكُمْ﴾ ويطلبون لكم ﴿سُوءَ الْعَذابِ﴾ وشديده.
ثمّ ذكّرهم أشدّ عذابهم بقوله : ﴿يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ﴾ ويكثرون في ذبحهم وإهلاكهم ﴿وَيَسْتَحْيُونَ﴾ ويستبقون ﴿نِساءَكُمْ﴾ وبناتكم ليستخدموهنّ ﴿وَفِي ذلِكُمْ﴾ الإنجاء ، أو سوء العذاب ﴿بَلاءٌ﴾ وفوز بالنّعمة ، أو محنة وكرب ﴿مِنْ﴾ جانب ﴿رَبِّكُمْ﴾ اللّطيف بكم ، والمالك لاموركم ﴿عَظِيمٌ﴾ في الغاية.
﴿وَواعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَأَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَقالَ
مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَأَصْلِحْ وَلا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ *
وَلَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي
وَلكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ
جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَأَنَا أَوَّلُ
الْمُؤْمِنِينَ (١٤٢) و (١٤٣)﴾
ثمّ أنّه روي أنّ موسى عليهالسلام وعد بني إسرائيل وهو بمصر : إن أهلك الله عدوّهم أتاهم بكتاب من عند الله فيه بيان ما يأتون ويذرون ، فلمّا هلك فرعون سأل الله ربّه ذلك الكتاب ، فبيّن الله كيفيّة نزول التّوراة (١) بقوله : ﴿وَواعَدْنا مُوسى﴾ ودعوناه إلى الطّور ﴿ثَلاثِينَ لَيْلَةً﴾ من ذي القعدة بأيّامها ليمقاتنا والوقت الذي وقّتناه ، كي يصوم في تمامها ، ويجتهد في العبادة فيها ﴿وَأَتْمَمْناها﴾ بعد وأكملناها ﴿بِعَشْرٍ﴾ من ليالي ذي الحجّة ﴿فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ﴾ والوقت المضروب لعبادة مليكه ﴿أَرْبَعِينَ لَيْلَةً﴾ من أوّل ذي القعدة إلى العيد الأضحى.
روي أنّ الله أمر موسى عليهالسلام بصوم ثلاثين يوما ؛ وهو شهر ذي القعدة ، فلمّا أتمّ الثلاثين أنكر خلوف (٢) فيه فتسوّك ، فقالت الملائكة : كنّا نشمّ من فيك رائحة المسك فأفسدته بالسّواك ، فأوحى الله إليه : أما علمت أن خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك ، فأمره الله أن يزيد عليها عشرة
__________________
(١) تفسير الرازي ١٤ : ٢٢٦.
(٢) خلف الشيء خلوفا : تغيّر وفسد ، والخلوف : رائحة فم الصائم.