ثمّ ﴿قالَ فِرْعَوْنُ﴾ للسّحرة بعد إيمانهم لموسى عليهالسلام إنكارا عليهم وتوبيخا لهم : ﴿آمَنْتُمْ بِهِ﴾ وصدّقتموه في دعوى رسالته ﴿قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ﴾ في الإيمان به ، مع أنّكم عبيدي ، ولم يجز لكم عمل بغير إذني ﴿إِنَّ هذا﴾ الصّنيع البتّة ﴿لَمَكْرٌ﴾ عظيم ﴿مَكَرْتُمُوهُ﴾ وحيلة واضحة احتلتموها أنتم وموسى ﴿فِي﴾ هذه ﴿الْمَدِينَةِ﴾ قبل أن تخرجوا إلى الميعاد ﴿لِتُخْرِجُوا مِنْها﴾ بذلك المكر ﴿أَهْلَها﴾ وساكنيها من القبط وتخلّى لكم ولبني إسرائيل ﴿فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ﴾ جزاء مكركم وصنيعكم ، وعن قريب تدرون سوء عاقبة عملكم.
قيل : إنّ فرعون لمّا رأى إيمان السّحرة بموسى عليهالسلام حجّة قوية على صحّة نبوّته ، ألقى الشّبهة في ذلك بقوله ﴿إِنَّ هذا لَمَكْرٌ﴾ يعني أنّ إيمانهم به ليس إلّا لتواطئهم مع موسى على ذلك ، وغرضهم منه انقراض سلطنة القبط ، وإخراجهم من مصر.
وعن ابن مسعود ، وابن عبّاس : أنّ موسى وأمير السّحرة التقيا ، فقال له موسى عليهالسلام : أ رأيتك إن غلبتك أتؤمن بي وتشهد أنّ ما جئت به الحقّ ؟ قال السّاحر : لآتينّ غدا بسحر لا يغلبه سحر ، فو الله لئن غلبتني لأؤمننّ بك ، وفرعون ينظر إليهما ويسمع قولها. فهذا هو قول فرعون ﴿إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ﴾(١).
﴿لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ * قالُوا إِنَّا إِلى
رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ * وَما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا
صَبْراً وَتَوَفَّنا مُسْلِمِينَ * وَقالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَ تَذَرُ مُوسى وَقَوْمَهُ
لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَيَذَرَكَ وَآلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَنَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ
وَإِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (١٢٤) و (١٢٧)﴾
ثمّ فصل ما أجمله أوّلا من التّهديد بقوله : ﴿لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ﴾ من طرف ﴿وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ﴾ ذلك الطّرف ﴿ثُمَ﴾ بعد ذلك ﴿لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ على جذوع النّخل تفضيحا لكم ، وتنكيلا وعبرة لأمثالكم.
قيل : هو أوّل من سنّ ذلك ، فشرعة الله تعالى لقطّاع الطّريق تعظيما لجرمهم (٢) .
ثمّ لمّا سمع السّحرة هذا التهديد الشديد ﴿قالُوا﴾ إعلاما بثباتهم على دينهم ، وعدم مبالاتهم بالموت ، والقتل ، بل شغفهم على لقاء الله : ﴿إِنَّا إِلى رَبِّنا﴾ ورحمته الواسعة ﴿مُنْقَلِبُونَ﴾ راجعون ، إن
__________________
(١) تفسير الرازي ١٤ : ٢٠٨.
(٢) تفسير روح البيان ٣ : ٢١٤.