روي [ أنّها ] لما تلقّفت حبالهم وعصيّهم وابتلعتها بأسرها ، أقبلت على الحاضرين فهربوا ، وازدحموا حتّى هلك منهم جمع كثير لا يعلم عددهم إلّا الله. ثمّ أخذها موسى وصارت عصا كما كانت ، وأعدم الله بقدرته القاهرة تلك الأجرام العظام ، وقيل : فرّقها أجزاء لطيفة ، فقالت السّحرة : لو كان هذا سحرا لبقيت حبالنا وعصيّنا (١) .
﴿فَوَقَعَ﴾ ما هو ﴿الْحَقُ﴾ الثابت في الواقع ، وظهر صدق موسى عليهالسلام ﴿وَبَطَلَ﴾ وأضمحلّ ﴿ما كانُوا يَعْمَلُونَ﴾ من السّحر ، وأمّا فرعون وملؤه ﴿فَغُلِبُوا﴾ في مجلسهم ﴿هُنالِكَ﴾ بحيث لم تكن غلبته أظهر من ذلك ﴿وَانْقَلَبُوا﴾ ورجعوا عن معارضته إلى محالّهم ﴿صاغِرِينَ﴾ بحيث لا صغار ولا ذلّ في حقّ مبطل مثل ذلك ﴿وَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ﴾ وخرّوا على الأرض ﴿ساجِدِينَ﴾ بالشدّة كأنّه ألقاهم ملق ، إظهارا لبهور الحقّ وعدم تمالكهم من قبوله ، وإعلاما بكسر فرعون بإيمان الّذين أتى بهم لكسر موسى عليهالسلام ، وانقلاب الأمر عليه.
استدلّ المتكلّمون بهذه الآية على غاية فضيلة العلم ؛ لأنّ السّحرة لعلمهم بحقيقة السّحر ومنتهاه علموا أنّ ما أتاه موسى عليهالسلام خارج عن السّحر ، وأنّه من المعجزات الإلهية لا من التمويهات البشرية ، ولذا ﴿قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ﴾ ولو لم يكونوا كاملين في علم السّحر لم يمكنهم الاستدلال بتلك المعجزة لاحتمال كونها السّحر الكامل.
ثمّ لمّا كان في كلامهم « ربّ العالمين » ، وكان فرعون مدّعيا للرّبوبيّة أوضحوه بقوله : ﴿رَبِّ مُوسى وَهارُونَ﴾ فإنّ فرعون وإنّ ربّى موسى في صغره فإنّه لم يربّ هارون.
قيل : إنّهم لمّا قالوا : ﴿آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ﴾ قال فرعون : إياي عنوا ، فلمّا قالوا : ﴿رَبِّ مُوسى﴾ قال : إيّاي عنوا ، لأنّي ربّيت موسى ، فلمّا قالوا : ﴿وَهارُونَ﴾ زالت الشّبهة ، وعرف الكلّ أنّهم كفروا بفرعون (٢) .
وقيل : إنّما خصّوهما بالذّكر تفضيلا وتشريفا لهما (٣) .
عن ابن عبّاس : آمنت السّحرة واتّبع موسى عليهالسلام من بني إسرائيل ستمائة ألف (٤) .
﴿قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ
لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (١٢٣)﴾
__________________
(١) تفسير روح البيان ٣ : ٢١٣.
(٢) تفسير الرازي ١٤ : ٢٠٦.
(٣) تفسير الرازي ١٤ : ٢٠٧.
(٤) تفسير روح البيان ٣ : ٢١٤.