ثمّ عزّى نفسه بأنّهم أهلكوا أنفسهم بسوء اختيارهم وإصرارهم على الكفر ، ومشاقّة الله ورسوله ، فليسوا بأهل لأن يأسى ويحزن عليهم ، ثمّ بيّن الله تعالى غاية لطفه بعباده ، وأنّه لا يكتفي في هدايتهم بإرسال الرّسل ، بل كان يوجد لهم منبّهات اخر بقوله : ﴿وَما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ﴾ ومحلّة قوم ، بلدا كانت أو رستاقا (١)﴿مِنْ نَبِيٍ﴾ منذر لهدايتهم ، فكذّبه أهلها ﴿إِلَّا أَخَذْنا﴾ وابتلينا ﴿أَهْلَها﴾ وساكنيها ﴿بِالْبَأْساءِ﴾ والشّدائد من الفقر والفّاقة ﴿وَالضَّرَّاءِ﴾ من الأمراض والأوجاع. وقيل في تفسيرهما على العكس ؛ لأجل أنّه ﴿لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ﴾ ورجاء أنّهم يخشعون لنا وينقادون لأوامرنا ، فإنّ البلايا من الفقر والمرض ترقّ القلوب وتؤثّر الانكسار والتّواضع في النّفوس.
﴿ثُمَ﴾ إذا لم يتأدّبوا بالبلاء ﴿بَدَّلْنا﴾ ما كان من حالهم بأن أعطيناهم ﴿مَكانَ السَّيِّئَةِ﴾ والبليّة التي كانت أصابتهم ﴿الْحَسَنَةَ﴾ من الرّخاء والسّعة والصحّة ، لتدعوهم النّعمة بعد النّقمة والرّخاء بعد الشدّة إلى الشّكر والخضوع والطّاعة ، فلم ينفعهم ذلك وبقوا على كفرهم وطغيانهم ﴿حَتَّى عَفَوْا﴾ وكثروا عددا وعدة ونعمة ﴿وَقالُوا﴾ جهلا بأنّ الشّدائد كانت لتأديبهم ، والإحسان إليهم بالنّعم كان لتنبيههم : إنّ هذه التّغييرات من عادة الزمان في أهله ، و﴿قَدْ مَسَ﴾ وأصاب ﴿آباءَنَا﴾ وأجدادنا في سالف الزّمان البأساء مرّة ، و﴿الضَّرَّاءُ﴾ اخرى ﴿وَالسَّرَّاءُ﴾ من النّعمة والرّخاء ثالثة ، فلم ينتقلوا عمّا كانوا عليه ، فكونوا أنتم كما كان آباؤكم.
فلمّا لم ينتفعوا بتلك الأحوال المختلفة ، ولم ينقادوا ، بل اصرّوا على ما هم عليه من الكفر والطّغيان وتكذيب الرّسل ﴿فَأَخَذْناهُمْ﴾ بالعذاب ﴿بَغْتَةً﴾ وفجأة ﴿وَهُمْ﴾ حال نزوله ﴿لا يَشْعُرُونَ﴾ به ولا يحتملون ابتلاءهم به ، فكان عذابهم لعدم انتظارهم له أشدّ عليهم نكالا وأعظم حسرة.
﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ
وَلكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (٩٦)﴾
ثمّ دعا سبحانه النّاس إلى الإيمان ورغّبهم فيه بتنبيههم على فوائده بقوله : ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى﴾ المهلكة بكفرهم وعصيانهم ﴿آمَنُوا﴾ بي وبوحدانيّتي ، وصدّقوا رسلي الّذين أرسلناهم إليهم لهدايتهم ، بدل كفرهم وتكذيبهم ﴿وَاتَّقَوْا﴾ المعاصي والسيّئات بدل ارتكابهم لها وانغمارهم فيها ، والله ﴿لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ﴾ كثيرة ﴿مِنَ السَّماءِ﴾ بالأمطار النافعة ﴿وَ﴾ من ﴿الْأَرْضِ﴾ بإنبات النّباتات الكثيرة والثّمار والزّروع ، وإكثار المواشي وإدامة الأمن والسّلامة ، ولوسّعنا عليهم جميع
__________________
(١) الرّستاق : معرّب « روستاه » وهي القرية بالفارسية.