تبعا لك ﴿مِنْ قَرْيَتِنا﴾ وبلدنا بغضا لكم ، وتخلّصا من زحمتكم وفتنتكم ﴿أَوْ لَتَعُودُنَ﴾ ولترجعنّ ﴿فِي مِلَّتِنا﴾ من عبادة الأصنام.
وإنّما عبّروا عن الدخول في ملّتهم بالعود - مع أنّ شعيبا لم يكن على ملّتهم قطّ ، لعدم جواز الكفر على الأنبياء - لاعتقادهم في حقّه الكفر قبل إظهاره الدّعوة إلى التّوحيد.
فلمّا سمع شعيب منهم هذا الكلام الشّنيع ﴿قالَ﴾ إنكارا عليهم وتعجّبا من قولهم : أنعود ﴿أَوَلَوْ كُنَّا كارِهِينَ﴾ لملّتكم ، متنفّرين من الدّخول في دينكم ؟ ! لا يكون ذلك أبدا ، فإنّه بعد حكم العقل الفطري بالتّوحيد ، وشهادة جميع الموجودات ، وانتظام العالم أحسن نظام ، واتّفاق جميع الأنبياء من أوّل الدّنيا عليه ، وعلى بطلان الشّرك وعبادة الأصنام ﴿قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللهِ كَذِباً﴾ عظيما ﴿إِنْ﴾ أشركنا و﴿عُدْنا﴾ كما تزعمون ﴿فِي مِلَّتِكُمْ﴾ الباطلة ، و قلنا بأنّ الله اتّخذ لنفسه ندّا ﴿بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللهُ مِنْها﴾ بتكميل عقولنا ، وتهذيب أخلاقنا ، وإلهامه إيّانا أنّه ليس كمثله شيء ، وأنّ الأصنام لا تضرّ ولا تنفع.
ثمّ بالغ في الإنكار بقوله : ﴿وَما يَكُونُ﴾ جائزا ﴿لَنا﴾ بحكم العقل السّليم ﴿أَنْ نَعُودَ فِيها﴾ ونتديّن بها ﴿إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللهُ﴾ ضلالنا وخزينا ، ولا يشاء ذلك أبدا ؛ لأنّه ﴿رَبُّنا﴾ اللّطيف بنا وبجميع عباده ، لا يريد لنا إلّا ما يقرّبنا إليه ، ويؤهّلنا لفضله ورحمته. وفيه الاعتراف بعجز نفسه عن تحصيل كلّ خير ، وأنّ الهداية والضّلالة بتوفيق الله وخذلانه.
ثمّ لمّا كان فضله متوقّفا على القابليّة والاستعداد ، وإثابته وتعذيبه على الإيمان والكفر ، والطاعة والعصيان ، وكلّها منوطة بعلمه بحقائق الأشياء وضمائر عباده وأحوالهم وأعمالهم ، أعلن بسعة علمه بقوله : ﴿وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْءٍ﴾ من القابليّات والضمائر والظّواهر ﴿عِلْماً﴾(١) لا يعزب عنه مثقال ذرّة.
ثمّ لما وعده الكفّار أن يخرجوه من بلدهم ، أو يعيدوه في ملّتهم ، أظهر اعتماده على الله بقوله : ﴿رَبَّنَا افْتَحْ﴾ واحكم ﴿بَيْنَنا وَبَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ﴾ وبما نستحقّه ﴿وَأَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ﴾ وأعدل الحاكمين تحلّ المعضلات وتفصل الأمور ﴿وَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ﴾ تثبيطا للنّاس عن اتّباعه : أيّها النّاس ﴿لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً﴾ وأمتثلتم ما أمركم به من الإيمان بتوحيد الله ، وترك البخس ﴿إِنَّكُمْ إِذاً﴾ ألبتّة ﴿لَخاسِرُونَ﴾ ومتضرّرون في دنياكم لفوات نفع البخس عنكم ، وفي دينكم لترككم ما كان عليه آباؤكم.
﴿فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ * الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ
__________________
(١) لم يرد في النسخة تفسير قوله تعالى : ( عَلَى اللهِ تَوَكَّلْنا ).