ثمّ بالغ سبحانه في ذمّ المكذّبين للرّسل ، والمفترين على الله بالبدع والأحكام الفاسدة الباطلة بقوله : ﴿فَمَنْ أَظْلَمُ﴾ على نفسه ، وأخسر في تجارته ﴿مِمَّنِ افْتَرى﴾ وتقوّل ﴿عَلَى اللهِ﴾ قولا ﴿كَذِباً﴾ ونسب إليه حكما باطلا ، كحرمة البحيرة وأخواتها ﴿أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ﴾ وأنكر دلائله الدالّة على توحيده في الالوهيّة والعبادة والعظمة ، ورسالة رسله ، ودار جزائه.
﴿أُولئِكَ﴾ البالغون في الظّلم غايته ﴿يَنالُهُمْ﴾ ويصل إليهم ﴿نَصِيبُهُمْ مِنَ﴾ الشّقاوة كما عن ابن عبّاس (١) ، أو من العقوبات كما عن القمّي (٢) ، أو من الأرزاق والأعمار والحظوظ الدّنيويّة المكتوبة لهم في ﴿الْكِتابِ﴾ ولوح القضاء.
﴿حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ﴾ ونزلت عليهم ﴿رُسُلُنا﴾ والمبعوثون من قبلنا من الملائكة الموكّلين بقبض الأرواح ، لأجل أنّهم ﴿يَتَوَفَّوْنَهُمْ﴾ ويقبضون أرواحهم ، إذن ﴿قالُوا﴾ لهم توبيخا وتقريعا : ﴿أَيْنَ ما كُنْتُمْ﴾ في حياتكم ﴿تَدْعُونَ﴾ وتعبدونه ﴿مِنْ دُونِ اللهِ﴾ وبدلا منه ، من الأصنام والكواكب وغيرها ، وترجون نفعه لكم عند الشّدائد ؟ فادعوهم الآن لينجوكم من أيدينا ﴿قالُوا﴾ في جوابهم تحسّرا وتندّما : إنّهم قد ﴿ضَلُّوا﴾ وغابوا ﴿عَنَّا﴾ ولا ينفعوننا اليوم ﴿وَشَهِدُوا﴾ واعترفوا ﴿عَلى أَنْفُسِهِمْ﴾ الخبيثة ﴿أَنَّهُمْ كانُوا﴾ في الدّنيا ﴿كافِرِينَ﴾ بالله ، عابدين لما لا يستحقّ العبادة.
قيل : هذا بيان سوء حالهم في القيامة ، والمراد من ( الرّسل ) ملائكة العذاب ، ومن ( التّوفية ) جمعهم واستكمال عدّتهم للحشر إلى النّار ، حتّى لا ينفلت منهم أحد (٣) إذن ﴿قالَ﴾ الله تعالى ، أو خازن النّار : ﴿ادْخُلُوا﴾ أيّها المشركون اليوم ﴿فِي﴾ زمرة ﴿أُمَمٍ﴾ وجماعات مشركين ﴿قَدْ خَلَتْ﴾ ومضت تلك الامم في الأزمنة التي كانت ﴿مِنْ قَبْلِكُمْ﴾ في الدّنيا وهم كانوا ﴿مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ﴾ جنسا ﴿فِي النَّارِ﴾ فيدخلونها فوجا بعد فوج ، وامّة بعد امّة.
فلمّا رأوا سوء عاقبة الشّرك ﴿كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ﴾ منهم في النّار ﴿لَعَنَتْ﴾ تلك الامّة ﴿أُخْتَها﴾ وشريكتها في الكفر والضّلال ، وتبرّأت من الجماعة الموافقة لها في الشّرك ، فهم يكونون على تلك الحالة ﴿حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا﴾ وتلاحقوا في النّار واجتمعوا ﴿فِيها جَمِيعاً﴾ وكافّة ﴿قالَتْ أُخْراهُمْ﴾ دخولا وأدناهم منزلة ، وهم الأتباع والسّفلة ، تخفيفا للعذاب عن أنفسهم ، وازديادا ﴿لِأُولاهُمْ﴾ دخولا وأعلاهم منزلة في الدّنيا من الرّؤساء والقادة : ﴿رَبَّنا هؤُلاءِ﴾ الرّؤساء والكبراء ﴿أَضَلُّونا﴾ عن الدّين الحقّ ، بأن سنّوا لنا سنّة سيّئة فاقتدينا بهم ، ﴿فَآتِهِمْ﴾ وأنزل بهم ﴿عَذاباً ضِعْفاً﴾ مضاعفا ﴿مِنْ
__________________
(١) تفسير الرازي ١٤ : ٧١.
(٢) تفسير القمي ١ : ٢٣٠ ، تفسير الصافي ٢ : ١٩٥.
(٣) تفسير الرازي ١٤ : ٧١.