ثمّ شرع في قدح الّذين لا يؤمنون بتوحيده بقوله : ﴿وَإِذا فَعَلُوا﴾ فعلة ﴿فاحِشَةً﴾ متناهية في القبح ، كعبادة الأصنام وتحريم السّائبة وأخواتها ، والطّواف بالبيت عراة ، واعترض عليهم فيها ﴿قالُوا﴾ مستدلّين على صحّة عملهم من الفاحشة : إنّا ﴿وَجَدْنا﴾ مرتكبين لتلك الفاحشة مواظبين ﴿عَلَيْها آباءَنا﴾ وكبراءنا ، وهم كانوا أعقل وأعلم ، فعلينا أن نقلّدهم ﴿وَاللهُ أَمَرَنا بِها﴾ .
ولمّا كان استدلالهم بتقليد آبائهم في غاية الفساد ، لأنّه ظنّي ، والظّنّ لا يغني من الحقّ شيئا ، أعرض سبحانه عن ردّه ، وأمر نبيّه صلىاللهعليهوآله بردّ دليلهم الثاني بقوله : ﴿قُلْ﴾ لهم يا محمّد : ﴿إِنَّ اللهَ﴾ حكيم في فعاله ، عليم بمصالح عباده ، ومن الواضح أنّ الله الحكيم ﴿لا يَأْمُرُ﴾ عباده ﴿بِالْفَحْشاءِ﴾ والقبائح.
وقد ثبت بحكم العقول السّليمة ، وبيان الرّسل أنّ هذه الأعمال من أقبح القبائح ، فكيف يمكن أن يأمر الله بها ، مع أنّكم لا ترون الله ، ولا تسمعون كلامه ، ولا تعترفون برسالة رسوله ؟ فبأيّ دليل علمتم بأمره ؟ ثمّ أنكر عليهم الدّعوى بقوله : ﴿أَ تَقُولُونَ﴾ وتفترون ﴿عَلَى اللهِ ما لا تَعْلَمُونَ﴾ من أنّه أمركم بها.
عن الصادق عليهالسلام قال : « من زعم أنّ الله يأمر بالفحشاء فقد كذب على الله ، ومن زعم أنّ الخير والشرّ إليه فقد كذب على الله » (١) .
عن العبد الصالح عليهالسلام قال : « هل رأيت أحدا زعم أنّ الله أمر بالزّنا ، وشرب الخمر ، وشيء من هذه المحارم ؟ » فقيل : لا ، قال : « ما هذه الفاحشة التي يدّعون أنّ الله أمرهم بها ؟ » قيل : الله أعلم ووليّه. فقال : « إنّ هذا في أئمّة الجور ؛ ادّعوا أنّ الله أمرهم بالائتمام بقوم لم يأمرهم الله بالائتمام بهم ، فردّ الله عليهم ، فأخبر أنّهم قالوا على الله الكذب » (٢) .
أقول : لعلّ المراد أنّ الإنكار في الآية راجع إلى تقليد آبائهم.
﴿قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَأَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ
الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (٢٩)﴾
ثمّ بيّن الله ما أمر به من المحسّنات العقليّة بقوله : ﴿قُلْ﴾ يا محمّد لهؤلاء المشركين : ﴿أَمَرَ رَبِّي﴾ جميع النّاس ﴿بِالْقِسْطِ﴾ والعدل في الأمور ، والتوسّط في المعاش من المأكل والمشرب واللّباس وغيرها ، وسائر ما تستحسنه العقول ، عن ابن عبّاس : القسط هو قول : لا إله إلّا الله (٣)﴿وَ﴾ أن ﴿أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ﴾ واستقبلوا بمقاديم أبدانكم إلى القبلة للدّعاء والعبادة ﴿عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ﴾ وفي مكان
__________________
(١) تفسير العياشي ٢ : ١٤١ / ١٥٥٨ ، تفسير الصافي ٢ : ١٨٨.
(٢) تفسير العياشي ٢ : ١٤٠ / ١٥٥٧ ، تفسير الصافي ٢ : ١٨٨.
(٣) تفسير الرازي ١٤ : ٥٧.