وقيل : إنّ الجهات مؤوّلة بالقوى الأربعة المفوّتة للسّعادات الرّوحانيّة ، فالمراد من قوله : ﴿مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ﴾ القوّة الخياليّة التي تكون في البطن المقدّم من الدّماغ ، ترد عليها صور المحسوسات ، ومن قوله : ﴿مِنْ خَلْفِهِمْ﴾ القوّة الوهميّة التي تكون في البطن المؤخّر منه ، تحكم في غير المحسوسات بالأحكام المناسبة للمحسوسات ، ومن قوله : ﴿عَنْ أَيْمانِهِمْ﴾ القوّة الشهويّة التي تكون في الكبد ، ومن قوله : ﴿وَعَنْ شَمائِلِهِمْ﴾ القوّة الغضبيّة التي تكون في البطن الأيسر من القلب.
قيل : إنّ النّكتة في تخصيص الأيمان والشّمائل بكلمة ( عن ) الدّالّة على المجاوزة : أنّ الملكين الكاتبين للأعمال لمّا كانا قاعدين عن اليمين والشّمال ، لا يقرب الشّيطان منهما ، بل يتباعد عنهما.
عن النبيّ صلىاللهعليهوآله أنّه قال : « إنّ الشّيطان قعد لابن آدم بطريق الإسلام فقال له : تدع دين آبائك ، فعصاه فأسلم ، ثمّ قعد له بطريق الهجرة فقال له : تدع ديارك وتتغرّب (١) ، فعصاه وهاجر ، ثمّ قعد له بطريق الجهاد فقال له : تقاتل فتقتل فيقسّم مالك وتنكح امرأتك ، فعصاه فقاتل » (٢) .
روي أنّ الشّيطان لمّا قال هذا الكلام رقّت قلوب الملائكة على البشر ، فقالوا : يا إلهنا ، كيف يتخلّص الإنسان من الشّيطان ، مع كونه مستوليا عليه من هذه الجهات الأربع ؟ فأوحى الله تعالى إليهم: إنّه بقي للإنسان جهتان ؛ الفوق والتّحت ، فإذا رفع يديه إلى فوق في الدّعاء على سبيل الخضوع ، أو وضع جبهته على الأرض على سبيل الخشوع ، غفرت له ذنب سبعين سنة (٣) .
ثمّ أخبر اللّعين ظنّا بنتيجة حملاته ومحاصرته بني آدم بقوله : ﴿وَلا تَجِدُ﴾ يا ربّ ﴿أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ﴾ لك ، مطيعين لأحكامك ، عاملين برضاك.
﴿قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ
أَجْمَعِينَ (١٨)﴾
ثمّ أنّه تعالى بعد إجهار اللّعين بمعارضته له ، ومعاندته لبني آدم ، عاتبه زجرا ومهانة و﴿قالَ﴾ له طردا من الجنّة ، أو السّماوات : ﴿اخْرُجْ مِنْها﴾ حال كونك ﴿مَذْؤُماً﴾ مذموما عندي وعند ملائكتي وسائر خلقي ﴿مَدْحُوراً﴾ ومطرودا عن جنّتي ورحمتي ، فبعزّتي ﴿لَمَنْ تَبِعَكَ﴾ واقتفى خطواتك من ذريّة آدم ، وأطاعك ﴿مِنْهُمْ﴾ في الدّنيا ، وخالفني في أحكامي ﴿لَأَمْلَأَنَ﴾ البتّة ﴿جَهَنَّمَ﴾ أيّها التّابع والمتبوع ﴿مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ﴾ لا ينجو منها أحد منكم إذا لم تتوبوا.
__________________
(١) في النسخة : وتتعرب.
(٢ و٣) . تفسير الرازي ١٤ : ٤٢.