ثمّ لمّا بيّن سبحانه أنّ القرآن الذي هو معجزة باهرة حكم الله بصدق نبوّتك فلا حاجة بعده إلى تحكيم غيره في ذلك ، بيّن أنّ موافقة الكفّار في ما يطلبونه من التحكيم وغيره صرف الضّلال ، بقوله مخاطبا لنبيّه صلىاللهعليهوآله بطريق ( إيّاك أعني واسمعي يا جارة ) : ﴿وَإِنْ تُطِعْ﴾ الكفار يا محمّد في ما يطلبونه ويشتهون ، نظرا إلى كونهم ﴿أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ﴾ ويحرفوك ﴿عَنْ سَبِيلِ اللهِ﴾ ودينه الحقّ ، حيث إنّهم مع إصرارهم على دينهم الباطل غير قاطعين به ، بل ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ﴾ في عقائدهم ومجادلتهم في التّوحيد وأعمالهم ﴿إِلَّا الظَّنَ﴾ بصحّة ما وجدوا عليه آباءهم ، لا القطع الحاصل من البرهان ﴿وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ ويكذبون في ادّعاء القطع ، أو يقولون عن تخمين واستحسان.
قيل : إنّ أهل مكّة كانوا يستحلّون [ أكل ] الميتة ويدعون المسلمين إلى أكلها ، وكانوا يقولون : إنّما ذلك ذبح الله ، فهو أحلّ ممّا ذبحتم بسكاكينكم ، فأنزل الله هذه الآية (١) .
﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ * فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ
اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (١١٧) و (١١٨)﴾
ثمّ بعدما بيّن سبحانه ضلالة أكثر النّاس ، بيّن علمه بأحوال جميعهم بقوله : ﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُ﴾ وأيّ شخص ينحرف ﴿عَنْ سَبِيلِهِ﴾ ودينه الحقّ وقيل : أعلم بمعنى : يعلم (٢)﴿وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾ إلى الحقّ.
ثمّ لمّا كان من ضلالة المشركين تحليل الميتة وما لم يذكر عليه اسم الله ، أمر الله المؤمنين بعد تحذيرهم من اتّباع المضلّين بتخصيصهم المذكّى بالأكل بقوله : ﴿فَكُلُوا﴾ أيّها المؤمنون ﴿مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ﴾ حين ذبحه خاصّة دون ما مات حتف أنفه ، أو ذكر اسم الأصنام عليه ﴿إِنْ كُنْتُمْ﴾ بكتاب الله و﴿بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ﴾ فإنّ الإيمان بالله وكتابه موجب للاحتراز عن غير ما أحلّه. ويحتمل أن يكون المراد الأمر بتعميم الأكل بكلّ ما ذكّي على اسم الله ، وإن كان سائبة وأخواتها.
﴿وَما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللهِ عَلَيْهِ وَقَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ
مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَإِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ
بِالْمُعْتَدِينَ (١١٩)﴾
__________________
(١) تفسير روح البيان ٣ : ٩٢.
(٢) تفسير روح البيان ٣ : ٩٢.