ثمّ لمّا أثبت سبحانه كمال قدرته وحكمته ، خصّ استحقاق العبادة بذاته المقدّسة بقوله : ﴿ذلِكُمُ﴾ القادر المدبّر الحكيم ﴿اللهَ﴾ المستحقّ للعبادة دون غيره ﴿فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ﴾ وكيف تصرفون عنه إلى غيره ، وتتركون عبادته ، وتشتغلون بعبادة خلقه ؟ !
وقيل : إنّ المراد : لمّا أنّه تعالى يخرج الحيّ من الميّت ، والميّت من الحيّ ، كيف تنكرون المعاد والإحياء بعد الموت (١) ؟
﴿فالِقُ الْإِصْباحِ وَجَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ
الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ
وَالْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (٩٦) و (٩٧)﴾
ثمّ أنّه تعالى بعد الاستدلال على توحيده بفلقه الحبّ والنّوى ، وعجيب تصرّفه في الأرضيّات ، استدلّ بما هو أعجب منه ، من ظهور كمال قدرته بتصرّفه في الفلكيّات ، وفلقه الفجر ، بقوله : ﴿فالِقُ الْإِصْباحِ﴾ وخالق عمود الفجر ، أو شاقّ ظلمة اللّيل بنور الصّبح ، أو شاقّ الصّبح ببياض النّهار ﴿وَجَعَلَ﴾ بقدرته الكاملة وحكمته البالغة ﴿اللَّيْلَ﴾ لأن يكون للنّاس وعامّة الحيوانات ﴿سَكَناً﴾ وزمان وقوف عن الحركة ، أو وقت راحة لاحتياجهم إلى الرّاحة والسّكون.
في ( نهج البلاغة ) : « ولا تسر أوّل اللّيل فإنّ الله جعله سكنا ، وقدّره مقاما لا ظعنا ، فأرح فيه بدنك وروّح ظهرك » (٢) .
وعن الباقر عليهالسلام : « تزوّج باللّيل ، فإنّ الله جعله سكنا » (٣) .
وفي ( الكافي ) : كان عليّ بن الحسين عليهماالسلام يأمر غلمانه أن لا يذبحوا حتّى يطلع الفجر ، ويقول : « إنّ الله جعل اللّيل سكنا لكلّ شيء » (٤) .
﴿وَ﴾ جعل ﴿الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ﴾ على أدوار مختلفة ليكونا ﴿حُسْباناً﴾ ومقدارا للأوقات ، فإنّه تعالى قدّر حركة الشّمس والقمر بمقدار من السّرعة والبطء لا يتجاوزانه إلى أقصى منازلهما ، فتتمّ الشّمس جميع البروج الاثني عشر في ثلاثمائة وخمسة وستّين يوما وربع يوم ، ويتمّ القمر في ثمانية وعشرين يوما ، وبهذا التّقدير تنتظم مصالح العالم المتعلّقة بالفصول الأربعة من نضج الثّمار وامور الحرث والنسل ، ونحو ذلك ممّا يتوقّف عليه النّظام ﴿ذلِكَ﴾ التّقدير والتّسيير بالحساب المعيّن
__________________
(١) تفسير الرازي ١٣ : ٩٤.
(٢) نهج البلاغة : ٣٧٢ الرسالة ١٢ ، تفسير الصافي ٢ : ١٤١.
(٣) الكافي ٥ : ٣٦٦ / ٣ ، تفسير الصافي ٢ : ١٤١.
(٤) الكافي ٦ : ٢٣٦ / ٣ ، تفسير الصافي ٢ : ١٤٢.